للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس الموت عدماً، إنما هو فراق لمحاب الدنيا، وقدوم على الله تعالى.

فالقدر الذي لا بدَّ منه للحياة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا، وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة، وإن أخذه لحظ النفس، وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا، والراغبين في حظوظها.

والرغبة في حظوظ الدنيا قسمان:

الأول: ما يُعرِّض صاحبه لعذاب الآخرة، ويسمى ذلك حراماً.

الثاني: ما يحول بين العبد وبين الدرجات العلا، ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً، فالدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ومن نوقش الحساب هلك.

عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (قَالَ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ». قالتْ: قُلْتُ: ألَيْسَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨)} [الانشقاق:٨]. قَالَ: «ذَلِكِ الْعَرْضُ» متفق عليه (١).

والدنيا قليلها وكثيرها .. وحلالها وحرامها .. كل ذلك مذموم إلا ما أعان على تقوى الله وطاعته مما أمر الله ورسوله به.

وكل من كانت معرفته أقوى كان حذره من نعيم الدنيا أشد، ولهذا زوى الله كل ما يشغل عن الآخرة من اللذات والشهوات عن الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين؛ ليتفرغوا للأعمال الصالحة.

وسلط عليهم البلاء والمحن، كل ذلك امتناناً عليهم؛ ليتوفر من الآخرة حظهم، ويعظم أجرهم، كما يمنع الوالد ولده من لذة الفواكه، ويلزمه الدواء الكريه المذاق شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه.

سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً، فقَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ


(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦٥٣٦) واللفظ له، ومسلم برقم (٢٨٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>