والدابة البدن، فإنه لا يبقى ليعمل إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن، كما لا يبقى ولا يسير الجمل إلا بعلف وماء، والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده، وقلبه معلق بالكعبة والحج، فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن، بل يشتغل بالعمل الموصل إلى الله مع العناية بالبدن الذي لا يتم العمل إلا بسلامته.
وقد اختلف الناس اختلافاً كبيراً في الإقبال على الدنيا والتجافي عنها، وأوسط الأمور، وأحبها إلى الله ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنه - وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية .. ولا يقمع الشهوات بالكلية .. فيأخذ من الدنيا قدر الزاد .. ويقمع من الشهوات ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل .. ولا يتبع كل شهوة .. ولا يترك كل شهوة .. بل يتبع العدل.
ولا يترك كل شيء من الدنيا .. ولا يطلب كل شيء من الدنيا.
بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة .. ومن السكن ما يحفظ من اللصوص، ويُكِنُّ من الحر والبرد .. ومن الكسوة ما يستر العورة، ويحفظ الإنسان من الحر والبرد، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن وحاجاته أقبل على طاعة مولاه بكل همته، واشتغل بالذكر والفكر والعمل الصالح طول العمر، وتلك سيرة أهل القرن الأول، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل الوسط بين الطرفين، وأحب الأمور إلى الله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧)} [الفرقان: ٦٧].
وطلب الدنيا كظل الإنسان لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله.
فالعاقل إنما يأخذ منها بقدر الحاجة، فإن ابتلي بسعة المال أنفقه فيما يرضي الله، وأخذ منه بقدر حاجته، واستعان به على طاعة ربه.