أما المسرف المبذر فقد يصادف عطاؤه موضعه، وكثيراً لا يصادفه، فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافاً لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة وإن اتفقت له.
فالأول بمنزلة من بذر حباً في أرض خصبة فأنبتت من كل زوج بهيج.
والثاني بمنزلة من بذر حبه في أرض سبخة.
والله سبحانه هو الجواد على الإطلاق، بل كل جود في العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى جوده أقل من قطرة في بحار الدنيا وهي من جوده.
ومع هذا فالله إنما ينزل بقدر ما يشاء، وجوده لا يناقض حكمته، ويضع عطاءه مواضعه، وإن خفي على أكثر الناس أن تلك مواضعه.
فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يضع فضله، وأعلم حيث يضع هداه وتوفيقه وأي المحال أولى به: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)} [البقرة: ٢١٦].
والله سبحانه هو الرزاق الذي يرزق من يشاء من عباده، ويحثه على الإنفاق في سبيل الله، فيبدأ عبده بالحض والتأليف، لا بالفرض والتكليف، ويشعره بأن الله يضاعف له أجر ما أنفق، يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده، ويضاعف من رحمته التي لا يعلم أحد مداها.
ويطمئنه أنه في إنفاقه لا يعطي بل يأخذ، وأن ماله لا ينقص بل يزيد كلما أنفق، كما تعطي الحبة إذا أودعها في الأرض سبعمائة حبة كما قال سبحانه:
فالمن والأذى يحيل الإنفاق سماً وناراً، يمحق الإنفاق، ويمزق الشمل، ويثير السخائم والأحقاد، والمن عنصر كريه لئيم، فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس،