ورب الدار يشاهد ما يصنع، وكرمه يمنعه من إخراجه من داره، حتى إذا ظن أنه قد استبد بتلك الآلات، ومَلَك الدار، وتصرف فيها تصرف المالك الحقيقي، واستوطنها واتخذها داراً له، أرسل إليه مالكها عبيده .. فأخرجوه منها إخراجاً عنيفاً، وسلبوه كل ما هو فيه، ولم يصحبه من تلك الآلات شيء.
وحصل على مقت رب الدار، وافتضاحه عنده، وبين مماليكه وحشمه وخدمه، فيا لها من عبرة لمن كان له عقل يعقل به: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)} [ق: ٣٧].
ومثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، فلا يزال يشرب حتى يقتله الماء المالح.
والدنيا كالظل للإنسان، لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله.
والله عزَّ وجلَّ خلق الدنيا ليبتلي بها العباد، ولينظر من يركن إليها فتقتله، ومن يطيع الله ويتبع هداه فيسعد في الدنيا والآخرة.
ومَثَل ذلك كمثل ملك بنى داراً لم ير الناس ولم يسمعوا بمثلها، فلا أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب إليها طريقاً، وبعث داعياً يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زُينت بأنواع الزينة، وأُلبست أنواع الحلل والحلى تشويقاً للناس إليها، وجُعل لها أعواناً وخدماً، وجُعل تحت يدها ويد أعوانها زاداً للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك، ولم يشتغل بك عني، وابتغى منك زاداً يوصله إليّ فاخدميه وزوديه، ولا تعوقيه عن سفره إلي.