وإنما الدنيا كحوض كبير مُليء ماء، وجُعل مورداً للأنام والأنعام، فجعل الحوض ينقص على كثرة الوارد، حتى لم يبق منه إلا كدر في أسفله، قد بالت فيه الدواب، وخاضته الناس والأنعام، فما أسرع زوالها، ألا وإن الدنيا قد آذنَتْ ِبصَرْم، وَوَلّتْ حَذّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء.
وإذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي الإنسان مريضه من الطعام والشراب، ومن أهان الدنيا كرمت عليه الآخرة، ومن أكرم الدنيا وأهلها هانت عليه الآخرة وأعمالها.
وحب الدنيا أصل كل خطيئة، والنساء حبائل الشيطان، والخمر جماع كل شر، والمال فيه داء كثير، إن سلم صاحبه من الفخر والخيلاء والطغيان، لم يسلم من أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله عزَّ وجلَّ وأداء حقوقه.
وكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا، فجميع الأمم المكذبة للرسل والأنبياء .. إنما حملهم على كفرهم، وتسبب في هلاكهم حب الدنيا.
فإن الرسل لما دعوهم إلى الإيمان، ونهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم.
وحب الدنيا يوقع العبد في الشبهات .. ثم في المكروهات .. ثم في المحرمات .. وطالما أوقع في الكفر والهلاك.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبْشِرُوا وَأمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ لا الْفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أخَشَى عَلَيْكُمْ أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ» متفق عليه (١).
وخطيئة آدم - صلى الله عليه وسلم - إنما كان سببها حب الخلود في الدنيا، وذنب إبليس سببه الكبر وحب الرئاسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وشهواتها، وبسببها كفر فرعون
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣١٥٨) واللفظ له، ومسلم برقم (٢٩٦١).