للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى حال التقرب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وعقله وبدنه .. ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان .. فيعبد الله كأنه يراه .. فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة، والتعظيم والإجلال، والخوف والخشية، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح، والجود في محبة حبيبه بلا تكلف، فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط.

ووراء هذا القُرْب قرب آخر، عبَّر عنه أقرب الخلق إلى الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (١).

وكلما ذاق العبد حقيقة التقرب انتقل إلى ما هو أعلى منه.

وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه، والعبد في الأرض.

وملاك هذا الأمر: التقرب والانبعاث بالكلية إلى الحبيب وما يحب، ولا يزال العبد رابحاً على ربه أفضل مما قدم له.

وهذا التقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، ومن لم يظفر بهذه الحياة العالية فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فإن همته فيها لا ترضى بالدون، وإن كان مهيناً خسيساً فعيشه كعيش أخس الحيوانات.

التاسعة: حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان:

وخلاصها من هذا السجن وضيقه، فإن من ورائه فضاءً وروحاً، وريحاناً


(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٧٤٠٥)، ومسلم برقم (٢٦٧٥) واللفظ له.

<<  <  ج: ص:  >  >>