والتقوى تُذكِّر العبد بربه، وتفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته.
فيمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه.
ونظر العبد ماذا قدم لغده كفيل بأن يوقظه إلى مواضع الضعف، ومواضع النقص، ومواضع التقصير في حياته، مهما يكن أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً.
إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب.
وكما يدعو الله عباده إلى اليقظة والتذكر، ومحاسبة أنفسهم، كذلك يحذرهم من نسيانه بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩)} ... [الحشر: ١٩].
إن الذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، والقصد من خلقه.
وهذا النسيان لربه مرض في القلب ينشأ عنه نسيانه لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.
فأي خسارة تحل بالإنسان إذا تمرغ في الدنيا بما يسخط الله، وغفل عن الآخرة، ورحل إليها بزاد إلى النار؟.
وتُعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)} ... [الحاقة: ١٨].
والكل مكشوف من الخلق:
فكل إنسان مكشوف الجسد .. مكشوف النفس .. مكشوف القلب .. مكشوف العمل .. مكشوف المصير .. وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار.
وتتعرَّى النفوس تعرِّي الأجساد .. وتبرز الغيوب بروز الشهود .. ويتجرد الإنسان من حيطته، ومن مكره، ومن تدبيره، ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصاً على أن يستره حتى عن نفسه.