فكل ذرة في هذا الكون، وكل خلية في أعماق الأرض، وقعر البحار، وجو السماء، هي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣)} [سبأ: ٣].
وسر الحياة في النبات والحيوان والإنسان ونشأتها غيب من غيب الله كنشأة الكون وحركته لا يعلمه إلا الله وحده كما قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١)} [الكهف: ٥١].
وخلق الإنسان من ماء الرجل، وكيفية خلقه، وكونه ذكراً أو أنثى أو توءماً من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا علم للبشر به: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩)} [الرعد: ٨، ٩].
إن الناس في الدنيا لا يرون الله، ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون به، وقلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه.
واستقرار حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته، والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة، والشعور بهذا الغيب شعورٌا يوازي بل يرجح الشهادة، حتى ليؤدي المؤمن شهادة أن (لا إله إلا الله) وهو لم ير الله.
تلك نقلة كبرى لهذا الإنسان من عالم المحسوس إلى عالم الغيب .. من عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب إلى عالم أفضل وأعلى وأجل، وهو عالم الإنسان الذي يؤمن بالغيب.
وهذا الكون العظيم مركب من عالمين:
عالم الغيب .. وعالم الشهادة.
وفي هذا الكون سنن ثابتة، وقد مكن الله الإنسان أن يعرف منها القدر اللازم له حسب طاقته وحسب حاجته للقيام بالخلافة في هذه الأرض.