بل اقتضى كماله المطلق أن يفعل ما يشاء، ويحكم ويتصرف، ويأمر ويدبر كما يشاء، وأن يحمد ويعبد، ويعرف ويذكر، ويعرف الخلق صفات كماله، ونعوت جلاله وجماله.
ولذلك خلق سبحانه خلقاً يعصونه ويخالفون أمره، وذلك لتعرف ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه كمال مغفرته وعفوه، وحلمه وإمهاله من عصاه.
ثم أقبل سبحانه بقلوب من شاء منهم إليه، فظهر كرمه في قبول توبته، وبره ولطفه في العود إليه بعد الإعراض عنه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» أخرجه مسلم (١).
فخلق العبد المغفور له، وتقدير الذنب الذي يغفر، والتوبة التي يغفر بها، هو نفس مقتضى العزة والحكمة، وموجب الأسماء الحسنى والصفات العلا.
والله سبحانه كل وقت يسوق المقادير إلى المواقيت التي وقتها لها، ويظهرها بأسبابها التي سببها لها، ويخصها بمحالها من الأعيان والأمكنة التي عينها لها.
والدين هو إثبات الأسباب .. والوقوف معها .. والنظر إليها.
والله تعالى أمرنا بالوقوف بها بمعنى أننا نثبت الحكم إذا وجدت، وننفيه إذا عدمت، ونستدل بها على حكمه الكوني.
وهل يستطيع حيوان أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب، فتنفسه بها، وتحركه بها، وسمعه وبصره بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهداه بها، وسعادته بها، وشقاؤه بالإعراض عنها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)} [البقرة: ١٧٢].
فالأسباب التي خلقها الله هي محل الأمر والنهي .. والثواب والعقاب .. والفلاح