وَمَات أهل قطا وَصَارَت جثثهم تَحت النخيل وعَلى الحوانيت حَتَّى لم يبْق بهَا سوى الْوَالِي وغلامين من أَصْحَابه وحاربة عَجُوز. وَبعث الْوَالِي يستعفي فولى الْوَزير عوضه مبارك أستادار طغجى. وَعم الوباء بِلَاد الفرنج وابتدأ فِي الدَّوَابّ ثمَّ الْأَطْفَال والشباب. فَلَمَّا شنع الْمَوْت فيهم جمع أهل قبرص من فِي أَيْديهم من الأسرى الْمُسلمين وقتلوهم جَمِيعًا من بعد الْعَصْر إِلَى الْمغرب خوفًا أَن يبيد الْمَوْت الفرنج فتملك الْمُسلمُونَ قبرص. فَلَمَّا كَانَ بعد عشَاء الْآخِرَة هبت ريح شَدِيدَة وَحدثت زَلْزَلَة عَظِيمَة وامتد الْبَحْر من المينة نَحْو مائَة قَصَبَة فغرق كثير من مراكبهم وتكسرت. فَظن أهل قبرص أَن السَّاعَة قَامَت فَخَرجُوا حيارى لَا يَدْرُونَ مَا يصنعون ثمَّ عَادوا إِلَى مَنَازِلهمْ فَإِذا أَهَالِيهمْ قد مَاتُوا وَهلك لَهُم ثَلَاثَة مُلُوك وَاسْتمرّ الوباء فيهم مُدَّة أُسْبُوع فَركب فيهم ملكهم الَّذِي ملكوه عَلَيْهِم رَابِعا بجماعته فِي مركب يُرِيدُونَ جَزِيرَة بِقرب مِنْهُم فَلم يمض عَلَيْهِم فِي الْبَحْر سوى يَوْم وَلَيْلَة حَتَّى مَاتَ أَكْثَرهم فِي الْمركب وَوصل باقيهم إِلَى الجزيرة فماتوا بهَا عَن أخرهم. ووافى هَذِه الجزيرة بعد مَوْتهمْ مركب فِيهَا تجار فماتوا كلهم وتجارتهم إِلَّا ثَلَاثَة عشر رجلا فَمروا إِلَى قبرص وَقد بقوا أَرْبَعَة نفر فَلم يَجدوا بهَا أحدا فَسَارُوا إِلَى طرابلس الغرب وَحَدثُوا بذلك فَلم تطل إقامتهم بهَا وماتوا. وَكَانَت المراكب إِذا مرت بجزائر الفرنج لَا تَجِد ركابهَا بهَا أحدا وَإِن صدفت أحدا فِي بَعْضهَا يَدعُوهُم أَن يَأْخُذُوا من أَصْنَاف البضائع بِالصبرِ بِغَيْر ثمن لِكَثْرَة من كَانَ يَمُوت عِنْدهم صَارُوا يلقون فِي الْبَحْر. وَكَانَ سَبَب الْمَوْت عِنْدهم ريح تمر على الْبَحْر فساعة يشمها الْإِنْسَان سقط وَلَا يزَال يضْرب بِرَأْسِهِ الأَرْض حَتَّى يَمُوت. وقدمت مركب إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فِيهَا اثْنَان وَثَلَاثُونَ تَاجِرًا وَثَلَاثُونَ رجل مَا بَين تجار وَعبيد فماتوا كلهم وَلم يبْق مِنْهُم غير أَرْبَعَة من التُّجَّار وَعبد وَاحِد وَنَحْو أَرْبَعِينَ من البحارة فماتوا جَمِيعًا بالثغر وَعم الْمَوْت أهل حزيرة الأندلس إِلَّا مَدِينَة غرناطة فَإِنَّهُ لم يصب أَهلهَا مِنْهُ شَيْء وباد من عداهم حَتَّى لم يبْق للفرنج من يمْنَع أَمْوَالهم. فأتتهم الْعَرَب من إفريقية تُرِيدُ أَخذ الْأَمْوَال إِلَى أَن صَارُوا على نصف يَوْم مِنْهَا مرت بهم ريح فَمَاتَ مِنْهُم على ظُهُور الْخَيل جمَاعَة كَثِيرَة. ودخلها باقيهم فَرَأَوْا من الْأَمْوَات مَا هالهم وَأَمْوَالهمْ لَيْسَ لَهَا من يحفظها فَأخذُوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ وهم يتساقطون موتى. فنجا من بَقِي مِنْهُم بِنَفسِهِ وعادوا إِلَى بِلَادهمْ وَقد هلك أَكْثَرهم وَالْمَوْت قد فَشَا بأرضهم بِحَيْثُ مَاتَ مِنْهُم فِي لَيْلَة وَاحِدَة عدد عَظِيم وَمَاتَتْ مَوَاشِيهمْ ودوابهم كلهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute