للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَكَانَ خُرُوج أهل الْإسْكَنْدَريَّة من الْأَبْوَاب من أعجب العجاب وَذَلِكَ لازدحامهم. وهلاك بَعضهم من قُوَّة الزحمة. وَفِي ذَلِك الْوَقْت نزعت من قُلُوبهم الرَّحْمَة فَخرج من الْأَبْوَاب أُلُوف مؤلفة بتوحيد الله معترفة فامتلأت مِنْهُم الْغِيطَان والبلدان وَنهب بَعضهم العربان وغلا السّعر بَينهم مَا جلبته الباعة إِلَيْهِم من الْبلدَانِ فباعوا الغالي بالرخيص وَصَارَ كل مِنْهُم على تَحْصِيل الْقُوت حَرِيص وَلَا أمكنهم ترك الْقُوت لزِيَادَة الغلاء وَلَا رجعُوا إِلَى قَول الشَّاعِر فِي بَيته السائر بَين الْمَلأ وَهُوَ: وَإِذا غلا شَيْء على تركته فَيكون أرخص مَا يكون إِذا غلا ثمَّ إِنَّه لما حصل الغلاء بَين أهل الْإسْكَنْدَريَّة الَّذين فروا من الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وَمِنْهُم من بَاعَ مَا عَلَيْهِ من فوطة وفاضل قَمِيص وَمِنْهُم من بَاعَ مَا يتدفأ بِهِ من جُبَّة وفرو مصيص وَذَلِكَ لخروجهم من بلدهم سرعَة وليسمع بَعضهم دِرْهَم وَلَا قِطْعَة بل تركُوا دِيَارهمْ مغلقة الْأَبْوَاب كسرتها ورتعت فِيهَا الإفرنج الْكلاب فنهبتها من الحوانيت والفنادق. وحملت مَا فِيهَا على الْجمال وَالْبِغَال وَالْحمير والأيانق ثمَّ قتلوا من اختفي عِنْد مصادفتها لَهُ من كَبِير وصغير وعرقبوا الْمَوَاشِي فَمنهمْ هَالك وكسير. ثمَّ إِنَّهُم أحرقوا القياسر والخانات وأفسدوا النسوان وَالْبَنَات وَكسر كل علج مارد قناديل الْجَوَامِع والمساجد وعلقوا على السُّور أَعْلَام الصلبان وأسروا الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدن وَقتلُوا كل شيخ عَاجز. حَتَّى المجانين والبلهاء والعجائز وَضاع للنَّاس فِي خُرُوجهمْ من أَبْوَاب الْمَدِينَة مَا استخفوا حمله من ذهب ومصاغ للزِّينَة وَذَلِكَ من قُوَّة الزحمة وَطلب النجَاة بِقُوَّة يتمه فَمن النَّاس من خرج. بِمن كَانَ مَعَه وَمِنْهُم من ضَاعَ مَا مَعَه فِي تِلْكَ الزحمة المفظعة وَمِنْهُم من ضَاعَ مَاله الَّذِي خرج بِهِ بَين الْأَبْوَاب وَصَارَ من ضيَاعه فِي حسرة واكتئاب قيل إِن بعض تجار الْأَعَاجِم خرج من بَاب رشيد وَمَعَهُ جراب فِيهِ سِتَّة آلَاف دِينَار فَمن قُوَّة الزحمة فِي الْبَاب سقط من بَين يَدَيْهِ بعد أَن كَانَ قَابِضا عَلَيْهِ فَمَا قدر على الانحناء يَأْخُذهُ من الأَرْض من قُوَّة ازدحام النَّاس بَعضهم لبَعض بل رَفعه من كَانَ خَلفه فَخرج صَحِيح الْبدن من الْبَاب مَجْرُوح الْقلب من ضيَاع الجراب فتفتت أكباده وَعدم نَومه ورقاده وَصَارَ إِلَى الْجُنُون انقياده وَزَالَ عَنهُ عقله ورشاده وَصَارَ يستغيث فَلَا يغاث وَنحل جِسْمه حَتَّى صَارَت عِظَامه كالرفات ثمَّ حصل لَهُ بذلك الضَّرَر والبؤس لما أحاطت بِهِ العكوس والنحوس فَصَارَت الأحباب تلومه على ضَيْعَة الجراب فَأَنْشد من لوعة الاكتئاب: إِذا كنت ألْقى الْبُؤْس عِنْد أحبتي ترى عِنْد أعدائي يكون دوائي

<<  <  ج: ص:  >  >>