من أعجب الاتفاقات أَن الْملك الْأَفْضَل عَليّ بن صَلَاح الدّين يُوسُف لم يملك مملكة إِلَّا وَأَخذهَا عَمه الْعَادِل مِنْهُ: فَأول ذَلِك أَن أَبَاهُ أقطعه حران والرها وميافارقن فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَسَار إِلَيْهَا حَتَّى إِذا بلغ حلب رده أَبوهُ وَبعث الْملك الْعَادِل بدله ثمَّ ملك الْأَفْضَل بعد أَبِيه دمشق فَأَخذهَا الْعَادِل مِنْهُ ثمَّ ملك مصر بعد ذَلِك فَأَخذهَا مِنْهُ الْعَادِل ثمَّ ملك صرخد فَأَخذهَا مِنْهُ الْعَادِل وعوضه قلعة نجم وسروج ثمَّ استرجعهما مِنْهُ بعد ذَلِك. فَلَمَّا تمهدت للْملك الْعَادِل الممالك قسمهَا بَين أَوْلَاده فَملك هُوَ وَأَوْلَاده من خلاط إِلَى الْيمن وَرَأى الْعَادِل فِي أَوْلَاده مَا يحب من اتساع الممالك وَكَثْرَة الظفر بالأعداء بِحَيْثُ لم يسمع عَن ملك أَنه رأى فِي أَوْلَاده مَا رَآهُ الْعَادِل فَإِنَّهُ اجْتمع فِي كل مِنْهُم من النجابة والنبل والكفاية والمعرفة والفضيلة وعلو الهمة مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ ودانت لَهُم الْعباد وملكوا خِيَار الْبِلَاد وَكَانَ كثيرا مَا يتَرَدَّد الْعَادِل فِي ممالك أَوْلَاده وَأكْثر أوقاته يصيف بِدِمَشْق ويشتي بِمصْر وَكَانَ أكولا نهما يَأْكُل خروفا مشويا بمفرده وَله اقتدار زَائِد على النِّكَاح ومتع فِي دُنْيَاهُ بأرغد عَيْش وَتمكن من السَّعَادَة فِي سَائِر أَحْوَاله وَكَانَ حميد السِّيرَة حسن العقيدة كثير السياسة صَاحب معرفَة بدقائق الْأُمُور قد حنكته التجارب فسعدت آراؤه ونجحت تدبيراته وَكَانَ لَا يرى محاربة أعدائه وَيسْتَعْمل فِي مقاصده المكائد والخدع فهادنته الفرنج لقُوَّة حزمه وَشدَّة تيقظه وغزارة عقله وَقُوَّة كَيده ومكره ومداومته على المخادعة والمخاتلة وَكَثْرَة صبره وحلمه وأناته بِحَيْثُ إِنَّه كَانَ إِذا سمع مايكره يغضي عَنهُ تجاوزا وصفحا كَأَنَّهُ لم يبلغهُ وَكَانَ لَا يخرج المَال إِلَّا عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَى إِخْرَاجه فيسمح حِينَئِذٍ بِبَدَل الْكثير مِنْهُ وَلَا يتَوَقَّف فِيمَا ينْفق فَإِذا لم يحْتَج إِلَى أخرج المَال ضن بِهِ وأمسكه فثابت لَهُ بذلك أغراضه كَمَا يجب وانقادت لَهُ الْأُمُور مثل مَا يخْتَار وَكَانَ يحافظ على أَدَاء الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا وَيُحب السّنة وَيكرم الْعلمَاء مَعَ العظمة وَقُوَّة المهابة المتمكنة فِي الْقُلُوب وَله صنف الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ كتاب تأسيس التَّقْدِيس وَبعث بِهِ إِلَيْهِ من بِلَاد خُرَاسَان. وَمَات الْملك الْعَادِل عَن خمس وَسبعين وَقيل ثَلَاث وَسبعين سنة وَترك مَالا كثيرا مِنْهُ فِي خزائنه الَّتِي استولى عَلَيْهَا ابْنه الْمُعظم سَبْعمِائة ألف دِينَار مصرية سوى مَا كَانَ لَهُ فِي الكرك فاحتوى عَلَيْهِ أَيْضا الْملك الْمُعظم وَكتب الْمُعظم إِلَى أخوته بِمَوْت أَبِيه فَجَلَسَ الْملك الْكَامِل للعزاء فِي مُعَسْكَره بِظَاهِر دمياط وارتاع لمَوْت أَبِيه خوفًا من الفرنج.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute