وَهلك مُعظم الدَّوَابّ لعدم الْعلف حَتَّى لم تُوجد دَابَّة للكراء وَهَلَكت الْكلاب والقطاط من الْجُوع. وانكشف حَال كثير من النَّاس وشحت الأنفسي حَتَّى صَار أكَابِر الْأُمَرَاء يمْنَعُونَ من يدْخل عَلَيْهِم من الْأَعْيَان عِنْد مد أسمطتهم. وَكثر تَعْزِير محتسب الْقَاهِرَة ومصر لبياعي لُحُوم الْكلاب وَالْمَيتَات ثمَّ تفاقم الْأَمر فَأكل النَّاس الْميتَة من الْكلاب والمواشي وَبني آدم وَأكل النِّسَاء أَوْلَادهنَّ الْمَوْتَى. ورأي بعض الْأُمَرَاء بِبَاب دَاره امْرَأَة لَهَا هَيْئَة حَسَنَة وَهِي تستعطي فرق لَهَا وأدخلها دَاره فَإِذا هِيَ جميلَة فأحضر لَهَا رغيفا وإناء مملوءاً طَعَاما أَكلته كُله وَلم تشبع فَقدم إِلَهًا مثله فأكلته وَشَكتْ الْجُوع فَمَا زَالَ يقدم لَهَا وَهِي تَأْكُل حَتَّى اكتفت ثمَّ استندت إِلَى الْحَائِط ونامت فَلَمَّا حركوها وجدت ميتَة فاخذوا من كتفيها جرابا فلفوا فِيهِ يَد إِنْسَان صَغِير وَرجله فَأخذ الْأَمِير ذَلِك وَصعد بِهِ القلعة وَأرَاهُ السُّلْطَان والأمراء. ثمَّ إِن الأسعار انْحَلَّت فِي شهر رَجَب حَتَّى أبيع الأردب الْقَمْح بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ درهما وَالشعِير بِخَمْسَة وَعشْرين درهما الأردب. وَأما النّيل فَإِنَّهُ توقف ثمَّ وَفِي سِتَّة عشر ذِرَاعا وَكسر الخليج فنقص فِي يَوْم عيد الْفطر بعد الْكسر نقصا فَاحِشا ثمَّ زَاد. فتزايد السّعر وَسَاءَتْ ظنون النَّاس وَكثر الشُّح وَضَاقَتْ الأرزاق ووقفت الْأَحْوَال وَاشْتَدَّ الْبكاء وَعظم ضجيج النَّاس فِي الْأَسْوَاق من شدَّة الغلاء. وتزايد الوباء بِحَيْثُ كَانَ يخرج من كل بَاب من أَبْوَاب الْقَاهِرَة فِي كل يَوْم مَا يزِيد على سَبْعمِائة ميت وَيغسل فِي الميضأة من الغرباء الطرحاء فِي كل يَوْم نَحْو الْمِائَة وَالْخمسين مَيتا وَلَا يكَاد يُوجد بَاب أحد من المستورين بِالْقَاهِرَةِ ومصر إِلَّا وَيُصْبِح على بَابه عدَّة أموات قد طرحوا حَتَّى يكفنهم فيشتغل نَهَاره. ثمَّ تزايد الْأَمر فَصَارَت الْأَمْوَات تدفن بِغَيْر غسل وَلَا كفن فَإِنَّهُ يدْفن الْوَاحِد فِي ثوب ثمَّ سَاعَة مَا يوضع فِي حفرته يُؤْخَذ ثَوْبه حَتَّى يلبس لمَيت آخر فيكفن فِي الثَّوْب الْوَاحِد عدَّة أموات. وَعجز النَّاس عَن مواراة الْأَمْوَات فِي الْقُبُور لكثرتهم وَقلة من يحْفر لَهُم فَعمِلت حفائر كبار ألقيت فِيهَا الْأَمْوَات من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان حَتَّى تمتلئ الحفرة ثمَّ تطم بِالتُّرَابِ. وانتدب أنَاس لحمل الْأَمْوَات ورميهم فِي الْحفر فَكَانُوا يَأْخُذُونَ عَن كل ميت نصف دِرْهَم فيحمله الْوَاحِد مِنْهُم وَيُلْقِيه إِمَّا فِي حُفْرَة أَو فِي النّيل إِن كَانَ قَرِيبا مِنْهُ. وَصَارَت الْوُلَاة بِالْقَاهِرَةِ ومصر تحمل الْأَمْوَات فِي شباك على الْجمال ويعلقون
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute