للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأَنْ قد يُرَى مِنيّ لِما قد أصابني

مِنَ الحُزن أَنِّي ساهفُ الوَجْهِ ذُو هَمِّ

سفه: قَالَ الله جلّ وعزّ: {إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البَقَرَة: ١٣٠) .

قلت: اختَلفتْ أقاويلُ النَّحويِّين فِي معنى قَوْله: {إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} وانتصابه.

فَقَالَ الْأَخْفَش: أهل التَّأْوِيل يَزْعمون أنّ الْمَعْنى: سَفّه نَفْسَه.

وَقَالَ يونسُ النحويّ: أُراها لغَةً، ذهب يونُس إِلَى أنّ فَعِل للْمُبَالَغَة، كَمَا أنّ فعَّل للْمُبَالَغَة، فَذهب فِي هَذَا مَذْهبَ أهل التَّأْوِيل، ويجوزُ على هَذَا القَوْل سَفِهْتُ زيدا، بِمَعْنى: سفَّهْتُ زيدا.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: معنى سَفِه نفسَه: أَهْلَك نَفسه، وأوْبَقَها، وَهَذَا غير خارجٍ من مذهبِ يونُسَ، وأهلِ التَّأْوِيل.

وَقَالَ الكسائيُّ والفرّاء: إنّ {نَفْسَهُ} مَنْصُوب على التَّفْسِير، وَقَالا: التَّفْسِير فِي النكرات أَكثر، نَحْو (طِبْتُ بِهِ نَفْساً) و (قَرِرت بِهِ عَيْناً) . وَقَالا مَعًا: إنَّ أصل الْفِعْل كَانَ لَهَا، ثمّ حُوِّل إِلَى الْفَاعِل؛ أَرَادَ أنّ قَوْلهم: (طبت بِهِ نفسا) مَعْنَاهُ طابت بِهِ نَفسِي، فلمّا حُوِّل الْفِعْل إِلَى ذِي النَّفس خرجت النَّفس مفسِّرة وَأنكر البصريّون هَذَا القَوْل وَقَالُوا: لَا تكون المفسِّرات إلاّ نَكِراتٍ، وَلَا يجوز أَن تُجْعَل المَعارفُ نَكِراتٍ.

وَقَالَ بعض النحويّين فِي قَوْله: {إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البَقَرَة: ١٣٠) ، مَعْنَاهُ إِلَّا من سفه فِي نَفسه، إلاّ أنّ (فِي) حُذفت كَمَا حذفت حروفُ الجرّ فِي غير مَوضِع: قَالَ الله جلّ وعزّ: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُو صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

١٧٦٤ - اْ أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (البَقَرَة: ٢٣٣) ، الْمَعْنى أَن تسترضعوا لأولادكم، فحُذِفَ حرفُ الجرّ من غير ظَرْف، وَمثله قَول الشَّاعِر:

نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيافِ نِيّاً

ونَبْذُلُه إِذا نَضِج القُدُورُ

الْمَعْنى: نغالي بِاللَّحْمِ.

وَقَالَ الزجّاج بعد مَا ذكَر أقاويلَ النَّحويّين القولُ الجيّد عِنْدِي فِي هَذَا أنّ {سَفِهَ} (البَقَرَة: ١٣٠) فِي مَوضِع (جَهِل) ، فَالْمَعْنى وَالله أعلم إِلَّا مَنْ جهل نَفسه: أَي لم يُفَكِّر فِي نَفسه، فَوُضِع {سَفِهَ} فِي مَوضِع (جهل) ، وعُدِّي على الْمَعْنى.

فَهَذَا جميعُ مَا قَالَ النحويُّون فِي هَذِه الْآيَة.

قلت: وَمِمَّا يقوِّي قولَ الزَّجَّاج الحديثُ الْمَرْفُوع: حِين سُئِل النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الكِبْر، فَقَالَ: (الكِبْرُ أنْ تَسْفَه الحقَّ، وتَغْمِطَ النّاس) ؛ مَعْنَاهُ أَن تجهَل الحقَّ فَلَا ترَاهُ حَقّاً، وَالله أعلم.

وَقَالَ بعض أهل اللّغة: أصل السَّفَه: الخفّة، وَمعنى السَّفِيه: الخفيفُ العَقْل، وَمن هَذَا يُقَال: تسفَّهَتِ الرّياحُ الشَّيْء: إِذا حرَّكَتْه واستخفّته فطيَّرتْه، وَقَالَ الشَّاعِر:

مَشَيْنَ كَمَا اهتَزَّت رِماحٌ تَسَفَّهَتْ

أعالِيَها مَرُّ الرّياحِ النَّواسِمِ

وَيُقَال: ناقةٌ سَفِيهةٌ الزِّمام: إِذا كَانَت خَفِيفَة السَّيْر.

<<  <  ج: ص:  >  >>