للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ: وعشوت إِلَى النَّار إِذا استدللت عَلَيْهَا ببصر ضَعِيف.

قلت: أغفل القتيبي مَوضِع الصَّوَاب، وَاعْترض مَعَ غفلته على الْفراء يردّ عَلَيْهِ فَذكرت قَوْله لأبين عواره فَلَا يغتر بِهِ النَّاظر فِي كِتَابه، وَالْعرب تَقول: عَشَوت إِلَى النَّار أعشو عَشْواً أَي قصدتها مهتدياً بهَا، وعشوت عَنْهَا أَي أَعرَضت عَنْهَا، فيفرقون بَين إِلَى وَعَن موصولين بِالْفِعْلِ.

وَقَالَ أَبُو زيد: يُقَال: عشا فلَان إِلَى النَّار يعشو عَشْواً إِذا رأى نَارا فِي أوَّل اللَّيْل فيعشو إِلَيْهَا يستضيء بضوئها، وعشا الرجل إِلَى أَهله يعشو، وَذَلِكَ من أول اللَّيْل إِذا علم مَكَان أَهله فقصد إِلَيْهِم.

وأخبرن المنذريّ عَن أبي الْهَيْثَم أَنه قَالَ: عَشِي الرجل يَعْشَى إِذا صَار أعشى لَا يبصر لَيْلًا، عَشَا عَن كَذَا وَكَذَا يعشو عَنهُ إِذا مضى عَنهُ، وعَشَا إِلَى كَذَا وَكَذَا يعشوا إِلَيْهِ عَشْواً وعُشوَّاً إِذا قصد إِلَيْهِ مهتدياً بضوء ناره، وَأنْشد قَول الحطيئة:

مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره

تَجِد خير نَار عِنْدهَا خيرُ موقد

قَالَ: وَيُقَال: استعشى فلَان نَارا إِذا اهْتَدَى بهَا، وَأنْشد:

يتبعن جِرْوَياً إِذا هِبْن قَدَمْ

كَأَنَّهُ بِاللَّيْلِ مُسْتَعْشِى ضَرَم

يَقُول: هُوَ نشيط صَادِق الطَرْف جريء على اللَّيْل، كَأَنَّهُ مستعشٍ ضَرَمَةً وَهِي النَّار. وَهُوَ الرجل الَّذِي قد سَاق الخارب إبِله فطردها فعَمَد إِلَى ثوب فشقّه وفتله فتْلاً شَدِيدا ثمَّ غمسه فِي زَيْت أَو دهن فروّاه ثمَّ أَشْعَل فِي طَرَفه النَّار فاهتدى بهَا، واقتصّ أثر الخارب ليستنقذ إبِله.

قلت: وَهَذَا كُله صَحِيح وَإِنَّمَا أَتَى القتيبي فِي وهمه الخطأُ من جِهَة أَنه لم يفرق بَين عشا إِلَى النَّار وعشا عَنْهَا، وَلم يعلم أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا ضدّ الآخر فِي بَاب الْميل إِلَى الشَّيْء والميل عَنهُ، كَقَوْلِك: عدلت إِلَى بني فلَان إِذا قصدتهم، وَعدلت عَنْهُم إِذا مضيتَ عَنْهُم، وَكَذَلِكَ ملت إِلَيْهِم وملت عَنْهُم، ومضيت إِلَيْهِم ومضيت عَنْهُم وَهَكَذَا.

قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج فِي قَوْله جلّ وعزّ: {لِلْمُتَّقِينَ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزّخرُف: ٣٦) أَي يُعرض عَنهُ كَمَا قَالَ الْفراء.

قَالَ أَبُو إِسْحَاق: وَمعنى الْآيَة أَن من أعرض عَن الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من الْحِكْمَة إِلَى أباطيل المضلّين فعقابُه بِشَيْطَان نقيّضه لَهُ حَتَّى يضلّه ويلازمه قريناً لَهُ فَلَا يَهْتَدِي؛ مجازاة لَهُ حِين آثر الْبَاطِل على الحقّ البيّن.

قلت: وَأَبُو عُبيدة صَاحب معرفَة بالغريب وأيّام الْعَرَب، وَهُوَ بليد النّظر فِي بَاب النَّحْو ومقاييسه.

وَفِي حَدِيث ابْن عمر أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: كَمَا لَا ينفع مَعَ الشّرك عمل هَل يضرّ مَعَ الْإِيمَان ذَنْب؟ فَقَالَ ابْن عمر: عَشِّ وَلَا تَغْتَرَّ. قَالَ أَبُو عبيد: هَذَا مثل، وَأَصله فِيمَا يُقَال أَن رجلا أَرَادَ أَن يقطع مفازة بإبله فاتّكل على مَا فِيهَا من الْكلأ، فَقيل لَهُ عشِّ إبلك قبل أَن تفوِّز، وَخذ

<<  <  ج: ص:  >  >>