للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧] (وَالْفِكْرَةُ) أَيْ التَّفَكُّرُ (فِي أَمْرِ اللَّهِ) تَعَالَى أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ (مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ وَاسْتَعِنْ) عَلَى نَفْسِك (بِذِكْرِ الْمَوْتِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ قَصُرَ أَمَلُهُ وَكَثُرَ عَمَلُهُ وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ كَثُرَ أَمَلُهُ وَقَلَّ عَمَلُهُ» .

(وَ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا (بِالْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ كَحَزْقَةِ الْقَبْرِ (وَ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالْفِكْرَةِ (فِي نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك) ؛ لِأَنَّك إذَا تَفَكَّرْت فِي نِعَمِهِ عَلَيْك اسْتَحْيَيْت أَنْ تُبَارِزَهُ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ يُنْعِمُ عَلَيْك (وَ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالْفِكْرَةِ (فِي إمْهَالِهِ لَك) وَأَنْتَ تَعْصِيهِ (وَ) فِي (أَخْذِهِ لِغَيْرِك) مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ (بِذَنْبِهِ) فِي الْحَالِ (وَ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالتَّفَكُّرِ (فِي) مَا تَقَدَّمَ مِنْ (سَالِفِ ذَنْبِك) وَخَفْ الْأَخْذَ بِهِ (وَ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالتَّفَكُّرِ فِي (عَاقِبَةِ أَمْرِك) إذْ لَا تَدْرِي بِمَاذَا يَخْتِمُ اللَّهُ لَك (وَ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالتَّفَكُّرِ فِي (مُبَادَرَةِ) أَيْ مُسَارَعَةِ (مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك) هَلْ هُوَ يَوْمٌ أَوْ أَقَلُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَهِّلُ الطَّاعَةَ وَيُقِلُّ الْأَمَلَ وَالْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهُ إذَا تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ أَتَاهُ وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ وَإِلَّا أَتَاهُ بَغْتَةً فَيَنْدَمُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، فَيَا لَطِيفُ اُلْطُفْ بِنَا فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا إلَّا بِك وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ــ

[حاشية العدوي]

اسْتِبْعَادُ الْعَفْوِ عَنْ الذُّنُوبِ لِاسْتِعْظَامِهَا لَا إنْكَارُ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ كُفْرٌ. [قَوْلُهُ: عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ] أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ [قَوْلُهُ: السُّوءِ] هُوَ الْمَعْصِيَةُ [قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى. . . إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِيَاسَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ كُفْرٌ لَا كَبِيرَةٌ، فَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ الْمُرَادُ بِكُفْرَانِهَا تَرْكُ شُكْرِهَا فَلَا يُوجَدُ شُكْرٌ عَلَيْهَا إلَّا بِالْقَلْبِ وَلَا بِاللِّسَانِ إذْ لَوْ وُجِدَ بِالْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ تَرْكِ الشُّكْرِ بِهَا كُفْرًا وَرَوْحُ اللَّهِ رَحْمَتُهُ. [قَوْلُهُ: أَيْ التَّفَكُّرُ. . . إلَخْ] أَيْ النَّظَرُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِكْرَةَ اسْمٌ لِلتَّفَكُّرِ. [قَوْلُهُ: أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ] أَيْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ ضِدُّ النَّهْيِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ فِعْلُهُ أَيْ مَفْعُولُهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَكِّرَ إذَا تَفَكَّرَ وَنَظَرَ فِي مَصْنُوعَاتِ خَالِقِهِ عَلِمَ وُجُوبَ وُجُودِهِ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ وَحَقِيقَةَ رُبُوبِيَّتِهِ فَيَجِدُّ فِي عِبَادَتِهِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنْ لَا يَتَفَكَّرَ فِي ذَاتِهِ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى إدْرَاكِهَا وَدَخَلَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ نَفْسُ الشَّخْصِ فَيُسْتَدَلُّ بِالنَّظَرِ فِيهَا عَلَى وُجُوبِ وُجُودِ صَانِعِهِ. [قَوْلُهُ: هَاذِمِ اللَّذَّاتِ] بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ قَاطِعِ، وَبِالْمُهْمَلَةِ مِنْ هَدَمَ الْبِنَاءَ وَالْمُرَادُ الْمَوْتُ وَهُوَ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ إمَّا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ يُزَهِّدُ فِيهَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَّ مَا يُبْقِي مِنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا شَيْئًا ذَكَرَهُ السِّنْدِيُّ شَارِحُ الْحَدِيثِ. [قَوْلُهُ: أَمَلُهُ] يُقَالُ أَمَلْته أَمَلًا تَرَقَّبْته كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ فَالْمَعْنَى قَصُرَ تَرَقُّبُهُ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ. [قَوْلُهُ: وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ] مِنْ بَابِ قَعَدَ [قَوْلُهُ: كَحَزْقَةِ الْقَبْرِ] أَيْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَضْلَاعُ لَا ضَمَّةُ الْقَبْرِ الَّتِي هِيَ كَضَمَّةِ الْوَالِدَةِ الشَّفُوقَةِ لِوَلَدِهَا، وَأُدْخِلَ تَحْتَ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: كَحَزْقَةِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ وَالْحَشْرُ وَالنَّشْرُ وَالْحِسَابُ وَالْعِقَابُ وَالنَّارُ أَفَادَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَفِي كَوْنِ كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ أَشَدَّ مِنْ الْمَوْتِ نَظَرٌ فَتَدَبَّرْ.

[قَوْلُهُ: أَنْ تُبَارِزَهُ بِالْمَعَاصِي] أَيْ تُقَابِلَهُ بِالْمَعَاصِي [قَوْلُهُ: فِي إمْهَالِهِ لَك] أَيْ تَأْخِيرِهِ لَك تَارِكًا عُقُوبَتَك [قَوْلُهُ: مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ] مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ وَصَالِحٍ.

قَالَ أَبُو حَازِمٍ إذَا رَأَيْت رَبَّك يُوَالِي عَلَيْك نِعَمَهُ فَاحْذَرْهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ. [قَوْلُهُ: إذْ لَا تَدْرِي] وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تُخَيِّرَ نَفْسَك عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ فَيَحْمِلُك ذَلِكَ عَلَى هَضْمِ النَّفْسِ وَتَرْكِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَمَحَبَّةِ الْغَيْرِ وَعَلَى عَدَمِ الْعَظَمَةِ عَلَى الْإِخْوَانِ [قَوْلُهُ: مِنْ أَجَلِك] بَيَانٌ لِمَا أَيْ مُسَارَعَةُ أَجَلِك الَّذِي عَسَى الْأَجَلُ أَيْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرُبَ فَافْتَعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَقَوْلُ الشَّارِحِ هَلْ هُوَ يَوْمٌ أَيْ هَلْ هُوَ نِهَايَةُ يَوْمٍ يَأْتِي، أَوْ نِهَايَةُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ مُسَارَعَةٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَيْ تَفَكَّرْ هَلْ هُوَ أَيْ الْأَجَلُ نِهَايَةُ يَوْمٍ، أَوْ أَقَلُّ، وَلَمْ يَقُلْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مَا يُقْصَرُ [قَوْلُهُ: لِأَنَّ ذَلِكَ] أَيْ التَّفَكُّرَ فِي الْمُبَادَرَةِ يَسْهُلُ [قَوْلُهُ: بَغْتَةً] أَيْ إتْيَانُ بَغْتَةٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>