للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْ شِيَمِ الْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ مُحْتَرِزًا مِنْ إخْوَانِهِ فَلَمْ يُؤْذِ النَّاسَ قَدِيمًا إلَّا مَعَارِفُهُمْ وَالْمَغْرُورُ مَنْ اغْتَرَّ بِمَدْحِهِمْ لَهُ، وَالْجَاهِلُ مَنْ صَدَّقَهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ

ــ

[حاشية العدوي]

الْعَالِمِ الْعَامِلِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ فَمَنْ عَظَّمَ الْعَالِمَ الْعَامِلَ فَقَدْ عَظَّمَ اللَّهَ أَيْ وَمَنْ حَقَّرَ الْعَالِمَ الْعَامِلَ فَقَدْ حَقَّرَ اللَّهَ، وَتَحْقِيرُ اللَّهِ كُفْرٌ فَتَحْقِيرُ الْعَالِمِ كُفْرٌ أَيْ كَالْكُفْرِ أَوْ كُفْرٌ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمُشْتَقٍّ يُؤْذِنُ بِالْعَلِيَّةِ أَيْ أَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى تَحْقِيرِهِ عِلْمُهُ الْمَوْرُوثُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّحْقِيرَ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ الْمَوْرُوثِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْمُحَقِّرَ إذَا كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ فَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي كُفْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَاعِثُ لَهُ مَا ذُكِرَ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَنُنْزِلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ كُفْرٌ أَوْ كَالْكُفْرِ وَظَهَرَ مِنْ تَقْيِيدِ الْعَالِمِ بِالْعَامِلِ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هُوَ قَاصِرٌ عَلَى الْعَالِمِ الْعَامِلِ.

[قَوْلُهُ: الْإِمَامُ] أَيْ السُّلْطَانُ وَقَوْلُهُ الْمُقْسِطُ أَيْ الْعَادِلُ فَيَجِبُ إجْلَالُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَا الْقَاسِطُ، أَيْ الْجَائِزُ فَلَا يَجِبُ تَعْظِيمُهُ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ وَإِنْ وَجَبَ تَعْظِيمُهُ ظَاهِرًا لِخَوْفِ ضَرَرٍ وَوَجْهُ كَوْنِ تَعْظِيمِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ تَعْظِيمَ اللَّهِ، وَكَذَا تَعْظِيمُ الْإِمَامِ الْمُقْسِطِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَإِذَا امْتَثَلَ أَمْرَهُ وَعَظَّمَ فَقَدْ عَظَّمَ اللَّهَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فَإِذَا لَمْ يُعَظِّمْ فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ فَلَمْ يُعَظِّمْ.

[قَوْلُهُ: وَمِنْ شِيَمِ الْعَالِمِ] أَيْ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا لُزُومَ الطَّبِيعَةِ لِمَطْبُوعِهَا.

[قَوْلُهُ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ] أَيْ بِأَهْلِ زَمَانِهِ أَيْ بِأَحْوَالِهِمْ كَيْ يُعَامِلَهُمْ بِمُقْتَضَى أَحْوَالِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ لَوْ جَهِلَ حَالَهُمْ لَوَقَعَ فِي الْمَكْرُوهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَلَاحٌ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مُمْسِكًا لِلِسَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ.

[قَوْلُهُ: مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ] أَيْ مِنْ تَحْصِيلِ حَسَنَةٍ لِمَعَادِهِ أَوْ دِرْهَمٍ لِمَعَاشِهِ أَيْ الْحَالُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا فَلَا يَرِدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الْمَنْسُوبَةِ لِلشَّخْصِ الْحَالَةُ الْمَكْرُوهَةُ شَرْعًا.

[قَوْلُهُ: حَافِظًا لِلِسَانِهِ] أَيْ لِأَنَّ آفَاتِ اللِّسَانِ لَا تُحْصَرُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا عَيْبُك قَالَ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لِسَانِي سَبُعٌ إنْ أَرْسَلْتُهُ أَكَلَنِي وَأَخْرَجَ الْفُضَيْلُ مَرْفُوعًا: «أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» وَأَجْمَعَتْ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَأْسَ الْحُكْمِ الصَّمْتُ وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَا حَجَّ وَلَا رِبَاطَ وَلَا جِهَادَ أَشَدُّ مِنْ حَبْسِ اللِّسَانِ.

[قَوْلُهُ: مُحْتَرِزًا مِنْ إخْوَانِهِ] أَيْ مِنْ مَعَارِفِهِ وَهُوَ جَمْعُ أَخٍ بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، وَأَمَّا الْأَخُ مِنْ النَّسَبِ فَيُجْمَعُ عَلَى إخْوَةٍ.

[قَوْلُهُ: فَلَمْ. . . إلَخْ] تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ مُحْتَرِزًا مِنْ إخْوَانِهِ أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذِ النَّاسَ قَدِيمًا إلَّا مَعَارِفُهُمْ، فَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَوْصِنِي فَقَالَ لَهُ: أَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي طَلَبِ الْوَصِيَّةِ فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ جَاءَك شَرٌّ قَطُّ مِنْ غَيْرِ مَنْ تَعْرِفُ وَإِنَّمَا يَأْتِيك الشَّرُّ مِمَّنْ تَعْرِفُ وَأَنْشَدُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى شِعْرًا يَحْضُرُنِي الْآنَ مِنْهُ شَطْرُ بَيْتٍ وَهُوَ:

جَزَى اللَّهُ خَيْرًا كُلَّ مَنْ لَسْت أَعْرِفُهُ

وَقَالَ بَعْضٌ:

رَأَيْت الِانْقِبَاضَ أَجَلَّ شَيْءٍ ... وَأَدْعَى فِي الْأُمُورِ إلَى السَّلَامَةِ

فَهَذَا الْخَلْقُ سَالِمْهُمْ وَدَعْهُمْ ... فَخُلْطَتُهُمْ تَقُودُ إلَى النَّدَامَةِ

وَلَا تُعْنَى بِشَيْءٍ غَيْرَ شَيْءٍ ... يَقُودُ إلَى خَلَاصِكَ فِي الْقِيَامَةِ

[قَوْلُهُ: وَالْمَغْرُورُ مَنْ اغْتَرَّ بِمَدْحِهِمْ لَهُ] فَإِنَّهُ إذَا اغْتَرَّ بِمَدْحِهِمْ افْتَتَنَ وَكَمَا جَازَ مَدْحُهُمْ لَك جَازَ ذَمُّهُمْ لَكَ فَإِنَّ مَنْ جَرَّبَ النَّاسَ قَلَاهُمْ وَلَا يَغْتَرُّ بِظَاهِرِ النَّاسِ حَتَّى يَعْرِفَ سَرِيرَتَهُمْ وَيَسْتَغْنِي عَنْهُمْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَوْ فِي أَدْنَى شَيْءٍ.

[قَوْلُهُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>