وَمُقَابِلُهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَنْ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَعَلَى الثَّانِي لِلتَّبْعِيضِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْخِلَافِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ.
تَنْبِيهٌ: اُنْظُرْ مَا قَالَهُ هُنَا مَعَ قَوْلِهِ بَعْدُ الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَ يَدْخُلُ فِيهِمْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ تَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، وَفَسَادُ قَوْلِ الْبَرَاهِمَةِ: أَنَّ الْعَقْلَ يُغْنِي عَنْ الرُّسُلِ، وَنَبَّهَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: (فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ وَأَضَلَّ مَنْ خَذَلَهُ
ــ
[حاشية العدوي]
وَمُقَابِلُهُ] أَيْ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: [قَوْلُهُ: وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ] أَيْ كَالبَاقِلَّانِيِّ وَالرَّازِيِّ. [قَوْلُهُ: مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ إلَخْ] أَيْ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ هُمْ خَلْقُهُ هَذَا مَعْنَاهُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا خَلْقَهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ مُبَالَغَةً أَوْ فَجَعَلَهُمْ نَفْسَ خَلْقِهِ مُبَالَغَةً يُفِيدُ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ الَّذِينَ مِنْهُمْ الْمَلَائِكَةُ.
[قَوْلُهُ: وَعَلَى الثَّانِي لِلتَّبْعِيضِ] أَيْ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِلتَّبْلِيغِ وَهُمْ بَعْضُ خَلْقِهِ. أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ يُقَالُ: إنَّ اخْتِيَارَهُمْ لِلتَّبْلِيغِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ يُؤْذِنُ بِأَفْضَلِيَّتِهِمْ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ. [قَوْلُهُ: وَاسْتَثْنَوْا إلَخْ] أَيْ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إنَّ جِبْرِيلَ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيِّنَا فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ. [قَوْلُهُ: وَلَا رَيْبٍ] عَطْفُ مُرَادِفٍ عَلَى قَوْلِهِ شَكٍّ، وَأَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ التَّرَدُّدِ.
[قَوْلُهُ: وَانْظُرْ مَا قَالَهُ هُنَا إلَخْ] أَيْ مِنْ قَوْلِهِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ إلَخْ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الرُّسُلَ أُرْسِلَتْ لِلْإِنْسَانِ فَقَطْ فَيُنَافِي قَوْلَهُ بَعْدُ الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَى الْعِبَادِ الشَّامِلَ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَيُجَابُ بِأَنَّ أَلْ فِي الْمُرْسَلِينَ لِلْجِنْسِ أَيْ أَعْذَرَ لِلْإِنْسَانِ فَقَطْ عَلَى أَلْسِنَةِ هَذَا الْجِنْسِ الْمُتَحَقِّقِ فِي غَيْرِ نَبِيِّنَا، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ لِلْجِنِّ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ نَبِيِّنَا.
وَقَوْلُهُ: فِيمَا يَأْتِي الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَخْ، مَعْنَاهُ الْبَاعِثُ جِنْسَ الرُّسُلِ إلَى جِنْسِ الْعِبَادِ فَيَصْدُقُ بِكَوْنِ بَعْضِ الرُّسُلِ لِبَعْضِ الْعِبَادِ كَغَيْرِ نَبِيِّنَا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسِ، وَيَكُونُ بَعْضُ الرُّسُلِ لِكُلِّ الْعِبَادِ كَنَبِيِّنَا فَإِنَّهُ أُرْسِلَ لِلْكُلِّ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ لَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ حَصْرٌ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعِبَادَ يَدْخُلُ إلَخْ] أَشَارَ بِقَوْلِهِ: يَدْخُلُ فِيهِمْ إلَى أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا غَيْرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ دَاخِلٌ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ خُصَّ بِالرِّسَالَةِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ أَفَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَرَجَّحَهُ الْبَارِزِيُّ وَزَادَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى نَفْسِهِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَلِيمِيُّ.
[قَوْلُهُ: إنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ] أَيْ يُدْرِكُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَا أَنَّهُ الْمُحَسِّنُ وَالْمُقَبِّحُ بِذَاتِهِ وَخُلَاصَتُهُ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمُدْرِكُ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلُ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَالْمُحَسِّنُ وَالْمُقَبِّحُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّفَاقٍ.
وَفِي ظَنِّي أَنَّ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُفِيدُ خِلَافَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِعْذَارَ عِنْدَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِرْسَالِ بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْعَقْلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ مُؤَكِّدًا فِيمَا أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ بِالضَّرُورَةِ كَحُسْنِ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ كَحُسْنِ الْكَذِبِ النَّافِعِ وَقُبْحِ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَجَاءَ مُعِينًا لِلْعَقْلِ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِ كَحُسْنِ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَقُبْحِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَفَسَادِ قَوْلِ الْبَرَاهِمَةِ أَنَّ الْعَقْلَ يُغْنِي إلَخْ] أَيْ فَهُمْ يُنْكِرُونَ الرُّسُلَ فَلِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِمْ دُونَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يُنْكِرُونَ فَهُمْ مُسْلِمُونَ عَلَى الْأَصَحِّ [قَوْلُهُ: وَنَبَّهَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ إلَخْ] فِيهِ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْفَاءِ قَدْ يَتَجَرَّدُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِك: جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو فَلَيْسَ مَلْزُومًا لِلسَّبَبِيَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ التَّنْبِيهُ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: فَهَدَى مَنْ إلَخْ] أَيْ فَأَرْشَدَ وَبَيَّنَ الطَّرِيقَ لِمَنْ وَفَّقَهُ حَالَةَ كَوْنِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ هَدَى مُلْتَبِسَةً بِفَضْلِهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْجُزْئِيِّ بِالْكُلِّيِّ، أَوْ أَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ مِنْ أَفْرَادِ فَضْلِهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ التَّوْفِيقُ مِنْ فَضْلِهِ هَذَا عَلَى مُغَايَرَةِ الْهِدَايَةِ لِلتَّوْفِيقِ،