فِيهَا الْقَطِرَانُ فَلَا تَزُولُ مِنْهَا رَائِحَتُهَا إلَّا بَعْدَ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ.
(وَ) اعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ (أَوْلَى) أَيْ أَحَقَّ (مَا عُنِيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى شُغِلَ (بِهِ النَّاصِحُونَ) أَيْ الْمُرْشِدُونَ لِلْخَيْرِ الْمُحَذِّرُونَ مِنْ الشَّرِّ (وَرَغِبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ) أَيْ الطَّالِبُونَ لِلْخَيْرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: (إيصَالُ الْخَيْرِ) أَيْ تَبْلِيغُهُ (إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ لِ) كَيْ (يَرْسَخَ) أَيْ يَثْبُتَ (فِيهَا وَ) ثَانِيهَا: (تَنْبِيهُهُمْ) أَيْ إيقَاظُهُمْ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهَالَةِ (عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ) ، أَرَادَ بِهَا هُنَا قَوَاعِدَ الدِّينِ.
(وَ) ثَالِثُهَا: عَلَى (حُدُودِ الشَّرِيعَةِ) وَهِيَ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَحَقَّ بِمَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ (لِ) أَجْلِ أَنْ (يُرَاضُوا) أَوْلَادَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ يُذَلِّلُوا (عَلَيْهَا) مِنْ رُضْت الدَّابَّةَ أَيْ ذَلَّلْتهَا؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَثْبُتُ الدِّينُ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَنْقَادُ إلَيْهِ طَبَائِعُهُمْ وَيُطَاوِعُونَ لِلْعَمَلِ بِذَلِكَ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي
ــ
[حاشية العدوي]
الْقَطِرَانِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا مِنْ غَيْرِهِ. [قَوْلُهُ: وَمَشَقَّةٍ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ. [قَوْلُهُ: أَيْ أَحَقُّ] ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا [قَوْلُهُ: بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ] هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ زُكِمَ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي أَتَتْ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَعْنَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، لَكِنَّ الشَّارِحَ فَسَّرَهَا بِشُغِلَ الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ عُنِيَ فَلَا يُعْلَمْ مِنْهُ أَنَّ عُنِيَ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، فَلَوْ فَسَّرَهَا بِنَحْوِ اهْتَمَّ لَكَانَ أَحْسَنَ لِإِفَادَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ حَقِيقَةً فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: أَيْ الْمُرْشِدُونَ لِلْخَيْرِ إلَخْ] أَيْ فَالنُّصْحُ بِالْإِرْشَادِ لِلْخَيْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ الشَّرِّ، ثُمَّ أَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ النُّصْحَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فَأَحَدُهُمَا لَا يُقَالُ لَهُ نُصْحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ نُصْحٌ كَمَا تُفِيدُهُ عِبَارَةُ الْمِصْبَاحِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ أَحَدُهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ. [قَوْلُهُ: أَيْ الطَّالِبُونَ لِلْخَيْرِ] تَفْسِيرٌ لِلرَّاغِبِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّغْبَةَ الْإِرَادَةُ. [قَوْلُهُ: إيصَالُ الْخَيْرِ] قَالَ تت: مَنْ عِلْمٍ وَغَيْرِهِ اهـ.
وَغَيْرُ الْعِلْمِ كَالْقُرْآنِ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى مَا قَالَ تت أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَتَنْبِيهُهُمْ إلَخْ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ.
وَقَوْلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ يُؤْذِنُ بِالْمُغَايَرَةِ بِحَيْثُ يُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا عَدَا الْأَحْكَامِ مُطْلَقًا اعْتِقَادِيَّةً أَوْ عَمَلِيَّةً فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ] خَصَّ الْأَوْلَادَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَجْلِ قَوْلِهِ لِيَرْسَخَ إلَخْ. [قَوْلُهُ: مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ إلَخْ] السِّنَةُ: مَا تَقَدَّمَ النَّوْمَ مِنْ الْفُتُورِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْغَفْلَةُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ غَيْبَةُ الشَّيْءِ عَنْ بَالِ الْإِنْسَانِ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ لَهُ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيمَنْ تَرَكَهُ إعْرَاضًا وَإِهْمَالًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: ١] اهـ.
وَالْجَهَالَةُ عَدَمُ الْعِلْمِ كَمَا يُفِيدُهُ الْمِصْبَاحُ، فَإِذَا تَقَرَّرَ فَنَقُولُ: إنَّ عَطْفَ الْجَهَالَةِ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَإِضَافَةُ سِنَةٍ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيْ إيقَاظُهُمْ مِنْ الْجَهَالَةِ الشَّبِيهَةِ بِالسِّنَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: أَرَادَ بِهَا إلَخْ] الْمَعَالِمُ جَمْعُ مَعْلَمٍ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْأَثَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَرَادَ بِهَا هُنَا قَوَاعِدَ الدِّينِ هَكَذَا أَفَادَ فِي تَحْقِيقِ الْمَبَانِي. وَقَوْلُهُ: هُنَا لَا مُحْتَرَزَ لَهُ.
[قَوْلُهُ: قَوَاعِدَ الدِّينِ] جَمْعُ قَاعِدَةٍ هِيَ أَسَاسُ الْبَيْتِ هَذَا فِي اللُّغَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلْعَقَائِدِ بِجَامِعِ مُطْلَقِ الِاعْتِمَادِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ لَا ثَبَاتَ لَهَا إلَّا بِالْأَصْلِيَّةِ أَيْ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُكَلَّفِ الْأَحْكَامُ الْفَرْعِيَّةُ إلَّا إذَا قَامَ بِهِ الْأَحْكَامُ الِاعْتِقَادِيَّةُ.
وَقَوْلُهُ: الدِّينَ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الدِّيَانَةَ اسْمٌ بِمَعْنَى الدِّينِ، وَظَهَرَ مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَيْ بِالدِّينِ الْأَحْكَامُ الْفَرْعِيَّةُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قَاعِدَةً لِلْمَجْمُوعِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ الْأَحْكَامُ] تَفْسِيرٌ لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ أَيْ حُدُودٌ هِيَ الشَّرِيعَةُ. [قَوْلُهُ: مِنْ رُضْت الدَّابَّةَ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: رُضْت الدَّابَّةَ رِيَاضَةً ذَلَّلْتهَا اهـ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ] الضَّمِيرُ لِلْحَالِ وَالشَّأْنِ. [قَوْلُهُ: بِذَلِكَ] أَيْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ إيصَالِ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِهِمْ وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى مَعَالِمِ إلَخْ. [قَوْلُهُ: يُثَبِّتُ الدِّينَ] أَيْ الْأَحْكَامَ أَصْلِيَّةً أَوْ فَرْعِيَّةً، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ يُثَبِّتُ الدِّينَ فِي قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ تَنْبِيهِهِمْ عَلَيْهِ.
[قَوْلُهُ: وَتَنْقَادُ إلَخْ] الْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ عَلَى قَوْلِهِ يُثَبِّتُ؛ لِأَنَّ الثَّبَاتَ بَعْدَ الِانْقِيَادِ، وَإِنْ كَانَتْ الْوَاوُ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا أَوْ الْمُرَادُ