للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوُجُوبُ كَالْخَوْفِ عَلَى الْمَالِ عِنْدَ رَبِّهِ مِنْ ظَالِمٍ، وَالتَّحْرِيمُ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ يَحْرُمُ قَبُولُهُ لِأَنَّ فِي إمْسَاكِهِ إعَانَةً عَلَى عَدَمِ رَدِّهِ لِمَالِكِهِ، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

وَأَرْكَانُهَا ثَلَاثَةٌ: الْمُودِعُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَالْمُودَعُ بِفَتْحِهَا، وَالشَّيْءُ الْمُودَعُ وَشَرْطُ الْأَوَّلَيْنِ كَالْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فَمَنْ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ، وَكُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا لِغَيْرِهِ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: رَدُّ الْوَدِيعَةِ وَاجِبٌ مَهْمَا طَلَبَ الْمَالِكُ وَانْتَفَى الْعُذْرُ إلَى أَنْ قَالَ: قَالَ فِي الْكِتَابِ يُصَدَّقُ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ وَالْقِرَاضِ إلَيْك إلَّا أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ: (وَالْمُودَعُ) بِفَتْحِ الدَّالِ (إنْ قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ إلَيْك صُدِّقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبَضَهَا بِإِشْهَادٍ) فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِإِشْهَادٍ عَلَى رَدِّهَا لِأَنَّهُ حِينَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَكْتَفِ بِأَمَانَتِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَقْصُودَةً لِلتَّوَثُّقِ وَبِذَلِكَ قَيَّدَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْمُدَوَّنَةَ أَمَّا إذَا دَفَعَهَا بِمَحْضَرِ شُهُودٍ وَلَمْ يُشْهِدْ

ــ

[حاشية العدوي]

الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: ٣] أَيْ مَا تَرَكَ عَادَةَ إحْسَانِهِ فِي الْوَحْيِ إلَيْك وَهِيَ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ لُغَةً الْأَمَانَةِ، وَاصْطِلَاحًا مَالٌ وُكِّلَ عَلَى حِفْظِهِ وَتَعْرِيفُ ابْنِ الْحَاجِبِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ.

[قَوْلُهُ: اسْتِنَابَةٌ إلَخْ] يَدْخُلُ إيدَاعُ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَيَخْرُجُ وَضْعُ الْأَبِ وَلَدَهُ عِنْدَ مَنْ يَحْفَظُهُ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقَالُ لَهُ مَالٌ، وَيَخْرُجُ وَضْعُ الْأَمَةِ مُدَّةَ الْمُوَاضَعَةِ عِنْدَ أَمِينَةٍ لِأَنَّ وَضْعَهَا لَمْ يَكُنْ لِحِفْظِهَا وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِخْبَارِ بِحَيْضِهَا، وَظَاهِرُ التَّعْرِيفِ كَالْمُدَوَّنَةِ شُمُولُهُ لِمَا لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ كَالرِّبَاعِ لِيَحْفَظَهَا الْمُودَعُ مِمَّنْ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا.

[قَوْلُهُ: وَحُكْمُهَا الْإِبَاحَةُ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ سِيَاقَ مَا يَأْتِي يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ حَيْثُ الْقَبُولُ أَيْ فَيُبَاحُ لِلْمُودَعِ أَنْ يَقْبَلَ الْوَدِيعَةَ، وَظَاهِرُهُ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ لِأَنَّهُ قَضَاءُ حَاجَةٍ لَهُ نَعَمْ الْإِبَاحَةُ ظَاهِرَةٌ فِيهِ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ مِنْ جَانِبِهِ فَتَدَبَّرْ.

[قَوْلُهُ: كَالْخَوْفِ إلَخْ] الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِقَبُولِهَا لَا بِفِعْلِهَا إلَّا أَنْ يُفْرَضَ فِي مَالٍ لَوْ تَرَكَهُ لَخَشِيَ ضَيَاعَهُ أَوْ ضَيَاعَ عِيَالِهِ.

وَقَوْلُهُ: يَحْرُمُ قَبُولُهُ يُفِيدُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ الْإِيدَاعِ بَلْ بِالْقَبُولِ مَعَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ أَيْضًا بِنَفْسِ الْإِيدَاعِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: حُرْمَةُ الْإِيدَاعِ لَا تُتَوَهَّمُ، وَمَحِلُّ كَوْنِهِ يَحْرُمُ قَبُولُهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَحْدِهَا لِيَرُدَّهَا لِرَبِّهَا أَوْ لِلْفُقَرَاءِ إنْ كَانَ الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ مُسْتَغْرَقَ الذِّمَّةِ لِأَنَّ عِيَاضًا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ قَبِلَ وَدِيعَةً مِنْ مُسْتَغْرَقِ الذِّمَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ يَضْمَنُهَا لِلْفُقَرَاءِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا النَّدْبُ حَيْثُ يَخْشَى مَا يُوجِبُهَا دُونَ تَحَقُّقٍ، وَكَرَاهَتُهَا حَيْثُ يَخْشَى مَا يُحَرِّمُهَا دُونَ تَحَقُّقٍ.

[قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨]] «كَانَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِفْتَاحَهَا، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهُ وَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَ فِي شَأْنِك قُرْآنٌ وَقَرَأَ عَلِيٌّ فَأَسْلَمَ، فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّهَا فِي أَوْلَادِهِ أَبَدًا» فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَتْ وَارِدَةً فِي شَأْنِ ذَلِكَ فَمَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ؟ قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَمِنْ عَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْخِيَانَةُ فَهِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ وَعَمَلِ الْفُسَّاقِ.

[قَوْلُهُ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ] اعْلَمْ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ عِنْدَ شَخْصٍ وَدِيعَةً أَيْ أَوْ بَاعَهُ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا أَوْ عَامَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَخَانَهُ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ ثُمَّ إنَّ هَذَا الْخَائِنَ أَوْدَعَ وَدِيعَةً عَنْ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ أَوْ بَاعَ مِنْهُ أَوْ اشْتَرَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذِهِ الْوَدِيعَةِ أَوْ مِمَّا عَامَلَهُ فِيهِ نَظِيرَ مَا ظَلَمَهُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَأْخُذْ أَزْيَدَ مِنْ حَقِّك فَتَكُونَ خَائِنًا، وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ فَلَيْسَ خَائِنًا فَإِنْ قُلْت: إنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ مَنْطُوقُهُمَا وُجُوبُ رَدِّ الْأَمَانَةِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَصْلِ الْإِيدَاعِ فَأَيْنَ الْمُطَابِقَةُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ؟ قُلْنَا: لَعَلَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ رَدَّ الْأَمَانَةِ فَرْعُ الْإِيدَاعِ، وَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيدَاعِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فَتَأَمَّلْ.

[قَوْلُهُ: فَمَنْ صَحَّ مِنْهُ إلَخْ] الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُوَكِّلَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ إلَّا الصَّغِيرَةَ فِي لَوَازِمِ الْعِصْمَةِ وَاَلَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ هُوَ الْمُمَيِّزُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>