والله عزَّ وجلَّ عليم بالمنافقين لا يبعث فيهم همة الخروج مع المسلمين للجهاد، لما يعلمه من سوء نواياهم، فأقعدهم مع القاعدين الذين لا يستطيعون الغزو، فهذا مكانهم اللائق بالهمم الساقطة، والقلوب المرتابة، والنفوس الخاوية من اليقين: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦)} [التوبة: ٤٦].
وقد وقف المنافقون في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبذلوا ما في طوقهم لتمزيق كلمة المسلمين، حتى غُلبوا على أمرهم، فاستسلموا وفي القلب ما فيه: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨)} [التوبة: ٤٨].
وكان ذلك عند مقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة، قبل أن يظهره الله على أعدائه، ثم جاء الحق، وانتصرت كلمة الله، فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون لله ورسوله ودينه، وأتباعه.
وظلوا يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين، وهم كذلك إلى يوم القيامة ولا يخلو منهم زمان ولا مكان.
إن الإيمان الحق متى استقر في القلب، ظهرت آثاره في السلوك، والإيمان عقيدة متحركة من الشعور الباطن إلى حركة سلوكية واقعية، فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم، ويبذلون في سبيله أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم.
والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها، ثم يدعها ويمضي مخالفاً لها، وقد كان المنافقون يدعون الإيمان، ويخالفون مدلوله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)} [النور: ٤٧].
وهذا الفريق الذي يدعي الإيمان، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان.
المنافقين الذين لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام، ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله إلا أن تكون لهم مصلحة،