وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين:
فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق .. ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل والظلم.
والله عزَّ وجلَّ أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً، ولا يقدر على عطاء ولا منع، ولا ضر ولا نفع، ولا شيء البتة.
فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمراً مشهوداً محسوساً لكل أحد، ولا ريب أن هذا من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إلى بارئه وفاطره.
فلما أسبغ الله عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأعلمه وأقدره، وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على الدواب، وعلى صيد الطيور، وقهر الوحوش، وحفر الآبار، وغرس الأشجار، وتعلية البناء، ويسر له الكسب والتجارة، ورزقه الأموال والأشياء، ظن المسكين أن له نصيباً من الملك والتصريف والتدبير.
وادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧)} [مريم: ٦٧].
ففقر العباد إلى ربهم نوعان:
فقر إلى ربوبيته: وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى ربها، في إيجادها ومصالحها.
وفقر إلى ألوهيته: وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين.
وهذا هو الفقر النافع، فإن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له ليس له