فلا يتصور في حقهم الصبر الذي حقيقته ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى، وإن كان لهم صبر يليق بهم، وهو ثباتهم وإقامتهم على ما خلقوا له من غير منازعة هوى أو شهوة أو طبع.
والمخلوقات ثلاثة أقسام:
فقد خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوات .. وخلق البهائم شهوات بلا عقول .. وخلق الإنسان وجعل له عقلاً وشهوة.
والإنسان إذا غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالبهائم.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان في ابتداء أمره ناقصاً، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب، ثم شهوة النكاح، ثم بعد ذلك يستعد لقوة الصبر.
وعند أول سن التمييز يلوح عليه إشراق نور الهداية، وينمو ذلك على التدريج إلى سن البلوغ، كما يبدو خيط الفجر ثم يتزايد ظهوره.
وكل هداية قاصرة غير مستقلة بإدراك مصالح الآخرة ومضارها، بل غايتها تعلقها ببعض مصالح الدنيا ومفاسدها.
فإذا طلعت عليه شمس النبوة والرسالة، وأشرق عليه نورها، رأى في ضوئها تفاصيل مصالح الدارين ومفاسدهما، فتلمح العواقب، ولبس لامة الحرب، وبدأت في قلبه الحرب بين داعي الطبع والهوى، وداعي العقل والهدى.
والمنصور من نصره الله .. والمخذول من خذله الله .. ولا تضع الحرب أوزارها حتى ينزل في إحدى المنزلتين، ويصير إلى ما خلق له في إحدى الدارين.
وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال:
الأول: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين على داعي الهوى، وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر، وأهل هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة، وهم الذين نالوا معية الله مع الصابرين، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وخصهم الله بهدايته دون غيرهم.