وأما الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظها، فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلي.
وإن كان في بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً.
أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عليه عبودية في النعماء، وعليه أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا.
والصبر من أجلّ مقامات الدين، وأخص الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، وذلك لا يقوم إلا على ساق الصبر.
والصبر على البلاء يكون بحبس النفس على المكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص في تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته، ويشهد العبد في تضاعيف البلاء لطف صنع الله به، وحسن اختياره له، وبره به، فيحصل له لذة بذلك.
وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهي أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التي خلعها عليه، ليدخل في أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله.
فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هي موافقة المحبوب في محابه، فيحب كل ما يحبه محبوبه، وإن كرهه من حيث الطبع البشري، كما يحب الدواء الكريه لما فيه من الشفاء.
وتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه فيه عن مراده هو منه، فإذا شهد مراد محبوبه أحبه، وإن كان كريهاً إليه.
وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى، وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة والسرور.