فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي، وأن تدفع العدوان الجائر الذي يهلك الحرث والنسل رحمة بالعباد.
وأَمْرُ المؤمنين بكف أيديهم عمن يؤذيهم من الكفار في مكة أَمْرٌ عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة، وله أسبابه الخاصة، إلى جانب ما فيه من تربية المسلمين على الصبر.
ولقد كانت هناك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي منها:
أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم يصدر عن هيئة مسيطرة، إنما هو تعذيب فردي، فالذين يؤذون من أسلم هم غالباً خاصة أهله، ولم يكن أحد يجرؤ على إيذائه، ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد، والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى والظلم، وصبر المسلمين على الأذى كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين، وهذا ما حصل في حادث الشعب، وحصر بني هاشم فيه، فقد صارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة من الظلم والجور.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تنفع لنظام.
والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب، مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة، وعلى كل مغنم، فلهذه الاعتبارات وأمثالها اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة، مع تقرير الطابع الأساسي من أول يوم بالانتصار ممن بغى واعتدى.