فلكمال إيمان إبراهيم وكمال يقينه، وكمال طاعته ومحبته لربه، وسرعته لتنفيذ أمره بذبح أحب شيء إليه، حفظ الله له ابنه، ورضي عنه، وفداه بذبح عظيم، فهو عظيم من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قرباناً وسنة إلى يوم القيامة، بذبح كل حب يزاحم حب الله ويشغل عنه.
وبعد هذا البلاء وحسن الطاعة والانقياد من إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أثنى الله على إبراهيم، وأبقى له الذكر الحسن إلى يوم القيامة، وهذا جزاء الكريم للمحسنين في عبادة الله ومعاملة خلقه أن يفرج عنهم الشدائد، ويجعل لهم العاقبة والثناء الحسن؛ لكمال إيمانهم بربهم كما قال سبحانه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)} [الصافات: ١٠٨ - ١١٣].
والمؤمن حقاً لا يقعد به حب الوطن، وإلف المكان، وأواصر النسب، والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها إذا ضاقت به في دينه، وعجز فيها عن الإحسان والعبادة، فالالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان، ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان، وذلك مدخل من مداخل الشرك الخفية في قلب الإنسان: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠)} [الزمر: ١٠].
والله تبارك وتعالى يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن ترك مألوف الحياة، ووسائل الرزق، واستقبال الحياة في أرض جديدة، تكليف صعب على الناس، ومن ثم يفتح الله على الصابر على ذلك أبواب العوض عن الوطن والأرض، والأهل والإلف، عطاء من عنده بغير حساب.
والإيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط، وإنما هو نور وحركة دافعة في القلب، يتولد منها أحسن الأقوال والأعمال والأخلاق.