وهذا الإيمان لا يأتي ولا يتم ولا يقوى إلا بالتضحية بكل شيء من أجله، والتضحية مركبة من أمرين: بذل كل شيء .. وترك كل شيء، من أجل إعلاء كلمة الله.
فالمهاجرون هجروا وتركوا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان، والأموال والشهوات، والأحباب والأهل، وبذلوا الأنفس والأموال والأوقات رغبة في الله، ومحبة لرسول الله، ونصرة لدين الله، وإعلاء لكلمة الله.
فهؤلاء هم الصادقون الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، والعبادات الشاقة، وهم أسبق الناس إلى الإيمان، وأحقهم بكل فضيلة؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة كما قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)} [الحشر: ٨].
والأنصار: وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - طوعاً ومحبة واختياراً، وآووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوؤا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المهاجرون، إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، والأنصار يحبون من هاجر إليهم، ويؤوونهم في المدينة ويطعمونهم ويستقبلونهم بالمحبة والإيثار، ويعلمونهم الدين، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئاً فشيئاً، وينمو قليلاً قليلاً، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.
فما أجمل هذه الصفات في الأنصار، وما أحسن أخلاقهم، إيمان ومحبة، وإيثار مع الحاجة، وبذل بلا بخل ولا شح كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ