ولو كان المسلمون منصورين دائماً، قاهرين غالبين، لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين، لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة.
فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غلبوا عدوهم أقاموا دين ربهم وشعائره، وإذا غلبهم عدوهم تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، واستغفروه وتابوا إليه.
وكذلك لو كانوا منصورين دائماً لدخل معهم من ليس مقصده الدين، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد.
فاقتضت حكمته سبحانه أن تكون لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، ليتميز بذلك من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
وكذلك الله عزَّ وجلَّ يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، فلا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان ولا تصح إلا بالحر والبرد، والراحة والتعب، والجوع والعطش.
وكذلك الله عزَّ وجلَّ يمحصهم بذلك، ويطهرهم من الذنوب كما قال سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)} [آل عمران: ١٤٠، ١٤١].
وجهاد النفس أعظم من جهاد الغير، وجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به وإن كانوا الأقلين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً، وأعظم الجهاد كلمة الحق عند من تخاف سطوته وأذاه كالسلطان الجائر.
ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له.
فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويجاهدها في الله لتستقيم على أوامر الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، إذ