ومن كفر بالحق بعد أن عمله كان سبباً لطبع الله على قلبه كما قال سبحانه: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥)} [النساء: ١٥٥].
وإن الحق لا يحق والباطل لا يبطل في أي مجتمع بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل، وإن كانت الهداية تنزل على من شاء الله من عباده، ولكن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس، والباطل لا يبطل ولا يذهب من واقع الناس إلا بالتضحية وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله، وتحطيم سلطان الباطل حتى يعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٧٤)} [النساء: ٧٤].
وإذا كان ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذي لا مرية فيه .. فما علة إصرار قوم على التكذيب؟.
العلة هي: أن كلمة الله وسنته اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها، فتكون نهايته إلى الضلال مهما تكن الآيات والبينات، وعندئذ تكون كلمة الله وسنته قد حقت عليهم بعدم الإيمان كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)} [يونس: ٩٦،٩٧].
والإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب؛ لأنه لم يجئ عن اختيار، ولم تعد هناك فرصة لتحقيق مدلوله، كما آمن فرعون حين أدركه الغرق كما قال الله عنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)} [يونس: ٩٠].
لكن لو عاد المكذبون للحق عن تكذيبهم قبيل نزول العذاب كشفه الله عنهم كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا