فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، وبذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل، إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير الذي له ملك السموات والأرض، وله الخلق والأمر في الكون كله.
والله تبارك وتعالى فطر قلوب العباد على قبول الحق والانقياد له، والطمأنينة به، والسكون إليه، ومحبته، وفطرها كذلك على بغض الباطل والكذب، والنفور عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره.
ومن تدبر القرآن أيقن أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأتقاهم، وأعلمهم.
ولهذا ندب الله عباده إلى تدبر القرآن كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤)} [محمد: ٢٤].
فلو رفعت الأثقال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الهدى والإيمان، وعلمت أنه الحق، وما سواه باطل كما قال سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)} [سبأ: ٦].
فالقلوب السليمة لا تطمئن إلا به، ولا تسكن إلا إليه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)} [الرعد: ٢٨].
فهذه القلوب هي التي تنقاد لحكم الله، وتسلم لأمره.
وقد نفى الله الإيمان عن كل من لم ينقد لحكم الله، ولم يسلم لأمره كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)} [النساء: ٦٥].
والتسليم نوعان:
تسليم لحكم الله الديني الأمري .. وتسليم لحكمه الكوني القدري.
فالأول تسليم المؤمنين العارفين، وأما التسليم للحكم الكوني فيحمد إذا لم