صد غيرهم عن الهدى، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً، وذلك شأن عام مع جميع الأقوام.
والطغاة المتسلطون يهددون بالعذاب الغليظ، ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح كما قال فرعون للسحرة لما آمنوا: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١)} [طه: ٧١].
إنه الاستعلاء بالقوة الغاشمة، قوة الوحوش في الغابة، القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة، وحيوان يقرع بالناب.
إن كفار مكة يظنون أن الدين كالتجارة، فهم على استعداد للتخلي عن كثير من تصوراتهم في مقابل أن يتخلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض ما يدعوهم إليه، وربه ينهاه عن ذلك بقوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)} ... [القلم: ٨ - ٩].
فهي المساومة إذاً كما يفعلون في التجارة، وفرق كبير بين العقيدة والتجارة، فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها أبداً، فهم يريدون من النبي (أن يترك سب آلهتهم، وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حاسماً في موقفه من دينه، لا يداهن فيه ولا يلين، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً، وأحسنهم معاملة، وأبرهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير، فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢)} [الفرقان: ٥٢].
ولم يساوم - صلى الله عليه وسلم - في دينه وهو أحرج المواقف في مكة، وهو محاصر في دعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُعذبون ويُؤذَوْن في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة فينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين تأليفاً لقلوبهم، أو دفعاً لأذاهم.