فالقلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة، وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة، والتأهب للقدوم على الله عزَّ وجلَّ، فذلك أول فتوحه وتباشير أنواره.
فعند هذا يتحرك قلب المؤمن لمعرفة ما يحبه الله ويرضاه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته، فكل من أيقن بلقاء الله وأنه سائله لا بدَّ أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصل إليه.
فإذا تمكن العبد في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة، فذلك يجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتُسد عليه الأبواب التي تفرق همه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق.
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، فلا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات، فإذا أدخل في الصلاة ودَّ أن لا يخرج منها.
ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي الحلوى.
ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة جلاله وكماله وصفاته بحيث ينسيه ذلك كل ما سواه.
ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول مشاهد المعرفة، وهو نور يقذفه الله في القلب يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فيستحي منه في جميع أحواله، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى الملك العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، فعند ذلك تزول عنه هموم الدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر، هو في وجود بين يدي ربه ووليه، ناظر إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا.
ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى تصريف وتدبير جميع الكائنات