وقد سأل موسى - صلى الله عليه وسلم - ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة فقال:«أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قال: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)} [السجدة:١٧]» أخرجه مسلم (١).
وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلا بمن قَدَّم حب الله تعالى والشوق إليه على حب ما سواه، علماً بأن مَنْ نال مِنَ الله تعالى هذه المنزلة نال لا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها مما في الجنة.
فهذا العبد قد جرَّد المحبة لله وإن كان يريد من ربه خير الدنيا والآخرة، فهذه إرادة خالصة جذبت قلبه إلى ربه جملة كما قال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)} [الكهف: ٢٨].
فهذه حقيقة التوحيد والإخلاص: انجذاب القلب إلى الله تعالى بالكلية.
وهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله.
فالسعيد كل السعادة من أقبل على ربه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فالأنس به سبحانه أعلى من كل ما يرجوه العابد من نعيم الجنة، والعبد يُّحجب عن الله بقدر إرادته لغيره، وليس معنى هذا أن الإنسان لا يريد من الله، أو يحتقر ما عظمه الله من نعيم الجنة كالحور، والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود أن لا يحتجب العبد عن إرادة ربه لذاته، ولو لم يكن هناك جنة ولا نار.
ولو لم يوجب محبة الله عزَّ وجلَّ إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيده، فضلاً عن عظمة أسمائه وصفاته وجماله وجلاله.