التفسيرِ: على شَكَ، قَالَ: وحقيقَتُهُ أَنَّه يعبدُ الله على حرفِ الطَّرِيقَة فِي الدّين، لَا يدخُلُ فِيهِ دُخُولَ مُتَمَكنٍ. وأفادني المنذريُّ عَن ابْن اليزيدي عَن أبي زيدٍ فِي قَوْله {عَلَى حَرْفٍ} على شَكَ. وأفادني عَن أَبِي الْهَيْثَمِ أَنه قَالَ: أما تسميتُهم الْحَرْفَ حَرْفاً فحرْفُ كل شيءٍ ناحيتهُ كحرْفِ الجَبَلِ والنهرِ والسيفِ وغيرهِ، قلتُ كأَنَّ الْخَيْر والخِصْبَ ناحيةٌ، والضَّرَّ والشَّرَّ وَالْمَكْرُوه ناحيةٌ أُخْرَى، فهما حرفان، وعَلى العبْدِ أَن يَعْبُدَ خالِقَه على حَالَة السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ. ومَنْ عَبَدَ الله على السَّرَّاءِ وحْدَهَا دون أَن يَعْبُدَه عَلَى الضَّراءِ يَبْتَلِيه الله بِهَا فَقَدْ عَبَدَهُ على حَرْفٍ، وَمن عَبَدَهُ كَيْفَما تصرَّفَتْ بِهِ الحالُ فقد عَبَدَهُ عِبادةَ عَبْدٍ مُقِرَ بأَنَّ لَهُ خَالِقاً يُصَرفه كيفَ يشاءُ، وَأَنه إِن امْتَحَنَه باللأواء وأنعم عَلَيْهِ بالسَّراء فَهُوَ فِي ذَلِك عادلٌ أَو متفضلٌ غير ظالمٍ وَلَا متعدَ، لَهُ الخيَرَةُ وَبِيَدِهِ الأمرُ وَلَا خِيَرَةَ للعَبْدِ عَلَيْهِ.
وَأما قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نُزلَ الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف كلهَا شاف كَاف) لقد أشبَعْتُ تَفْسِيره فِي كتاب (القراءَات وعِللِ النحويينَ) فِيهَا وَأَنا مختصرٌ لَكَ فِي هَذَا الموضِعِ من الجُمَلِ الَّتِي أودَعْتُها ذَلِك الكتابَ مَا يَقِفُ بِكَ على الصوابِ. فَالَّذِي أذْهَبُ إِلَيْهِ فِي تفسيرِ قولهِ: (نُزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحرف مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو عبَيْدٍ واتَّبعه على ذَلِك أَبُو العَبَّاسِ أَحْمد بن يحيى.
فَأَما قَول أبي عبيدٍ فَإِن عبدَ الله بنَ مُحَمَّد ابْن هاجَك أَخْبرنِي عَن ابْن جَبَلَة عَن أبي عبيدٍ أَنه قَالَ فِي قَوْله (على سَبْعَة أحرف) يَعْنِي سبع لُغَاتٍ من لُغَات العَرَبِ. قَالَ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَن يكونَ فِي الْحَرْف الواحدِ سبعَةُ أَوْجُهٍ هَذَا لَمْ نَسمعْ بِهِ. قَالَ وَلَكِن نقُول: هَذِه اللغاتُ السبعُ متفرقَةٌ فِي الْقُرْآن فبعضه بِلُغَةِ قُرَيْش وبعضُه بلغَة هوازِنَ وبعضُه بلغَة هُذَيْلٍ وبعضُه بلغَة أهلِ اليَمَن، وَكَذَلِكَ سائِرُ اللُّغَات ومعانيها فِي هَذَا كُله وَاحِدَةٌ. قَالَ ومِمَّا يُبَينُ ذَلِك قولُ ابْن مَسْعُود: إِنِّي قد سَمِعت القراءَةَ ووجدتهم متقاربين فاقرءوا كَمَا علمْتُم، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْل أحدكُم هَلُمَّ وَتَعَال وأَقْبِل.
وَأَخْبرنِي المنذريُّ عَن أبي الْعَبَّاس أَنه سُئِل عَن قَوْله (نزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف) فَقَالَ: مَا هِيَ إِلَّا لغاتٌ. قلت: فَأَبُو العبَّاسِ النَّحْوِيّ وَهُوَ وَاحِدُ عصره، قد ارْتَضَى مَا ذهبَ إِلَيْهِ أَبُو عبيد واستصْوبَه. قلت: وَهَذِه الأحْرُفُ السبعةُ الَّتِي مَعْنَاهَا اللغاتُ غيرُ خَارِجَةٍ من الَّذِي كُتِبَ فِي مصاحِف الْمُسلمين الَّتِي اجْتمع عَلَيْهَا السلفُ المرضيُّون وَالْخلف المتبعون فَمن قَرَأَ بحرفٍ لَا يُخَالِفُ المصحفَ بزيادةٍ أَو نُقْصانٍ أَو تَقْدِيم مؤخَّرٍ أَو تأخيرِ مُقَدَّم وَقَدْ قَرَأَ بِهِ إِمامٌ من أَئِمَّة القُرَّاءِ المُشْتهرين فِي الأَمْصَارِ فقد قَرَأَ بحرْفٍ من الحُرْوف السَّبْعَة الَّتِي نزل الْقُرْآن بهَا، وَمن قرأَ بحرفٍ شاذَ يُخَالِفُ المصحفَ، وخالَفَ بذلك جمهورَ القَرَأَةِ المعروفين، فَهُوَ غيرُ مصيبٍ. وَهَذَا مذهبُ أهلِ العِلْم الَّذين هم القُدْوَة، ومذهبُ الراسخِين فِي عِلْمِ الْقُرْآن قَدِيما وحديثاً، وَإِلَى هَذَا أَوْمَى أَبُو الْعَبَّاس
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute