كَقَوْلِه:
إِن تأت من تَحت أجئها من علو
وَقَالَ الآخر:
إِذا أَنا لم أومن عَلَيْك وَلم يكن
لقاؤك إلاّ مِن وراءُ وراءُ
فَرفع إِذْ جعله غَايَة وَلم يذكر بَعدَه الَّذِي أضيف إِلَيْهِ.
قَالَ الفرّاء: وَإِن نَوَيْت أَن تُظهر مَا أضيف إِلَيْهِ وأظهرته فَقلت: لله الْأَمر من قبلِ وَمن بَعدِ جَازَ، كَأَنَّك أظهرت المخفوض الَّذِي أضفت إِلَيْهِ قَبْلَ وبَعد.
وَقَالَ اللَّيْث: البُعد على مَعْنيين: أَحدهمَا ضِدّ القُرب. تَقول مِنْهُ: بَعُدَ يَبْعُد بُعْداً فَهُوَ بَعيد. وَتقول: هَذِه الْقرْيَة بَعِيدٌ، وَهَذِه الْقرْيَة قريبٌ وَلَا يُرَاد بِهِ النعتُ، وَلَكِن يُرَاد بهما الِاسْم. وَالدَّلِيل على أَنَّهُمَا اسمان قَوْلك: قريبُه قريبٌ وبَعيده بَعيدٌ. قَالَ والبُعْدُ أَيْضا من اللعْن كَقَوْلِك: أَبْعَدَه الله أَي لَا يُرثَى لَهُ فِيمَا نَزَل بِهِ. وَكَذَلِكَ بُعْداً لَهُ وسُحْقاً. ونَصَب بُعْداً على الْمصدر وَلم يَجعله اسْما، وَتَمِيم ترفع فَتَقول: بُعْدٌ لَهُ وسُحْقٌ؛ كَقَوْلِك: غلامٌ لَهُ وفرسٌ.
وَقَالَ الفرّاء: الْعَرَب إِذا قَالَت: دَارك منّا بَعِيدٌ أَو قريبٌ، أَو قَالُوا: فُلَانَة منا قريبٌ أَو بَعِيدٌ ذكَّروا الْقَرِيب والبَعيد؛ لِأَن الْمَعْنى هِيَ فِي مَكَان قريب أَو بَعيد، فجُعل الْقَرِيب والبَعِيد خَلَفاً من الْمَكَان.
قَالَ الله جلّ وعزّ: {وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (هُود: ٨٣) وَقَالَ {عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ} (الأحزَاب: ٦٣) وَقَالَ {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الْأَعْرَاف: ٥٦) قَالَ: وَلَو أُنِّثَتا وبُنِيتَا على بَعُدَت مِنْك فَهِيَ بعيدَة، وقرُبَت فَهِيَ قريبَة كَانَ صَوَابا. قَالَ: وَمن قَالَ قريبٌ وبعيدٌ وذكّرهما لم يُثَنِّ قَرِيبا وبعيداً، فَقَالَ: هما مِنْك قريبٌ وهما مِنْك بعيدٌ. قَالَ: ومَن أنثهما فَقَالَ: هِيَ مِنْك قريبَة وبعيدة ثنَّى وَجمع فَقَالَ: قريبات وبعيدات. وَأنْشد:
عَشِيَّةَ لَا عفراء مِنْك قريبَة
فتدنو وَلَا عفراء مِنْك بعيد
قَالَ: وَإِذا أردْت بالقريب والبعيد قَرَابة النّسَب أنّثت لَا غير، لم يخْتَلف الْعَرَب فِيهَا.
وَقَالَ الزجّاج فِي قَول الله جلّ وعزّ: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} : إِنَّمَا قيل: قريبٌ لِأَن الرَّحْمَة والغفران وَالْعَفو فِي معنى واحدٍ. وَكَذَلِكَ كلّ تَأْنِيث لَيْسَ بحقيقيّ.
قَالَ: وَقَالَ الْأَخْفَش: جَائِز أَن تكون الرَّحْمَة هَهُنَا بِمَعْنى المَطَر.
قَالَ: وَقَالَ بَعضهم يَعْنِي الفرّاء: هَذَا ذُكِّر ليفصل بَين الْقَرِيب من القُرْب والقريب من الْقَرَابَة. وَهَذَا غلط، كل مَا قَرُبَ فِي مَكَان أَو نسَبٍ فَهُوَ جارٍ على مَا يُصِيبهُ من التَّأْنِيث والتذكير.
وَقَوله جلّ وعزّ: {أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} (هُود: ٩٥) قَرَأَ الكسائيّ وَالنَّاس: {كَمَا بَعِدَتْ} قَالَ وَكَانَ أَبُو عبد الرحمان السُلَمِيّ يقْرؤهَا: (بَعُدَتْ) ، يَجْعَل الْهَلَاك والبُعد سَوَاء، وهما قريبٌ من السوَاء؛ إلاّ