للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن جملة ما اعتبروه قادحًا أن لا يعمل به علماء بلدهم، فيقولون: لولا أن هناك قادحًا لعملوا به واشتهر، وهو قادح ضعيف كما لا يخفى، فيصير الأولون يذمون الآخرين بنبذ السنة واتباع الرأي، والأخيرون يذمّون الأولين بالجمود وضعف الفكر.

وفي زمن ابن المسيب وإبراهيم النخعي كثرت الفروع في جميع أبواب الفقه؛ إذ كان كلٌّ منهما ممن جمعها حفظًا لا خطًّا, ووقوعًا لا تقديرًا، بمعنى أنهم في هذا العصر ما كانوا يفرضون المسائل التي لم تقع ويستنبطون لها حكمًا, وإنما كانوا يحفظون أحكام ما وقع في زمنهم وزمن من قبلهم، فابن المسيب وأصحابه كانوا يرون أن أهل الحرمين الشريفين أثبت الناس في الحديث والفقه، ولذلك جمع فتاوي أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأحكامهم, وفتاوي علي قبل الخلافة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة.

وقد اعتمد ابن المسيب مسند أبي هريرة كثيرًا, وقضايا قضاة المدينة، وحفظ من ذلك شيئًا كثيرًا، ونظر فيه نظر اعتبار وتفتيش وتحقيق وتطبيق، فما كان مجمعًا عليه من علماء المدينة عضَّ عليه بالنواجذ هو وأصحابه لا يتجاوزنه، وهو الذي يقول فيه مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيه عندنا, أو يقول: وهو الأمر المجتمع عليه عندنا. وما اختفلوا فيه أخذ بالأقوى دليلًا وشهرة، وهو الذي يقول فيه: هذا أحسن ما سمعت، ومن هنا نشأ عمل أهل المدينة الذي جعله مالك أصلًا أصيلًا لمذهبه، وهو الذي يقول في الموطأ: وعليه الأمر عندنا.

ولم يقل له الحنفية ولا بقية المذاهب وزنًا, متعللين بأن أهل المدينة ليسوا محل العصمة, وإذا لم يجد المدنيون لمن قبلهم النص على حكم مسألة بعينها, خرجوا وتتبعوا الإيماء والاقتضاء, فأخذوا بالرأي أيضًا, ولكن عند الضرورة وهو عدم وجود الأثر, فكان ذلك قولًا لهم واجتهادًا، وكان إبراهيم النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود أثبت الناس في الفقه لقوله -عليه السلام: "تمسكوا بعهد ابن أم عبد" ١، وهو سادس ستة في الإسلام كما سبق.

وقال علقمة٢ يومًا لمسروق٣: لا أجد أثبت من عبد الله، على أن ابن


١ الترمذي وابن ماجه، وقد سبق.
٢ ابن قيس النخعي.
٣ ابن الأجدع الهمداني الكوفي.

<<  <  ج: ص:  >  >>