[ما صار إليه الفقه من القرن الرابع إلى وقتنا إجمالا]
إذا تأملت تراجم من سطرنا أمامك من الفقهاء، وتدحرج الفقه في تلك الأزمان تبين لك أن المجتهد المطلق لم يوجد من لدن القرن الرابع كما قال
النووي، وإنما هو أهل الاجتهاد المقيد، وهم مجتهدوا المذهب الذين لهم القوة على استنباط المسائل من الكتاب والسنة، وبقية الأصول، لكنهم مقيدون بقواعد مذهب إمامهم، وآخر هذا النوع كان في القرن الخامس كاللخمي والسيوري، والمازني وابن العربي، وابن رشد، ومعاصريهم من المذاهب الأخرى، يظهر أن آخرهم في المغرب الإمام عياض في أواسط السادس، ونشأ أئمة مجتهدون بالإطلاق زمن الموحدين كأبي الخطاب بن دحية وأخيه، وابن عربي الحاتمي، لكنهم قليلون، ولم يتضح لنا إطلاقا من كل وجه، فربما كانوا مقيدين بمذهب أهل الظاهرة، وقد صرح بذلك بعض من ترجم لهم، ففي "نفح الطيب" لما ترجم لابن عربي الحاتمي قال: إنه كان ظاهريا، وتقدم لنا ما يفيد ذلك.
وقد يوجد من يزعم الاجتهاد بإطلاق كابن وزير اليمني المتوفى سنة ٨١٦، وتقدم في الشافعية وغيره قليل، ثم تحولت الحال لمجتهدي الفتوى أصاحب الترجيح في الأقوال الذين ليس لهم أن يستنبطوا حكما لمسألة، وحسبهم أن ينقلوا ما استنبطه المتقدمون، ويرجحوا ما اختاروه من الخلاف بالحجج التي وصلوا إليها باجتهادهم المذهبي فأقول لهم: إنما يعبر عنها خليل وغيره بالتردد، ولو مع عدم نص المتقدمين كابن شاش وابن الحاجب وهذه الطبقة قد انتهت أواسط الثامن، ولم يبق بعدها إلا أهل التقليد المحض غالبا بمعنى أنهم قد حجروا عليهم ألا يأخذوا بكتاب ولا سنة ولا قياس، بل حسبهم أقوال المتقدمين من أهل مذهبهم وتطبيقها على الوقائع الوقتية، فنصوص مذهبهم قامت مقام نصوص الشارع، ويأتي مزيد بسط لهذا في ترجمة "هل انقطع الاجتهاد أم لا" ومن المتأخرين بعدهم من ادعى رتبة الترجيح والاختيار كأبي الفداء إسماعيل التميمي التونسي السابق وأمثاله، وذلك نادر.
ويوجد نوع آخر من الفقهاء نادر وهو من يمهر في أكثر من مذهب واحد، فيفتي لأهل مذهبين فأكثر، كالإمام ابن دقيق العيد، كان يفتي على مذهبي مالك والشافعي، ومثله الإمام محمد بن عمران المعروف بالكركي، وبابن الدلالات الفاسي الأصل المولود بها سنة ٦٢٧ المصري الوفاة كما في "بغية الوعاة" وكان