[مقدرة أبي حنيفة وسرعة خاطره]
إن أبا حنيفة قد توسَّع في القياس والاستنباط بما كان له من جودة الفكر الوقّاد، وحسن الاعتبار الصحيح، وسرعة الخاطر، وتدقيق النظر، وكمال الإمامة فيه، فلذلك استنبط فروعًا وبيَّنَ أحكامها، فحصل على شهرة طبقت الآفاق، روي أنه جاءه رجل فقال: إن ابن أبي ليلى -وكان قاضيًا بالكوفة- جلد امرأة مجنونة قالت لرجل: يا ابن الزاني حدَّين بالمسجد، وهي قائمة, فقال أبو حنيفة بداهة: أخطأ من ستة أوجه.
قال ابن العربي: وهذا الذي أدركه بداهة لا يدركه بالروية إلّا العلماء الماهرون، وذلك أن المعاني المتعلقة بهذه المسالة ستة:
الأولى: إن المجنون لا حدَّ عليه؛ لأن الجنون يسقط التكليف, هذا إذا كان القذف في حال الجنون, أما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى, فيحد حال إفاقته إذا قذف حال إفاقته أيضًا.
الثاني: قولها: يا ابن الزانيين, جلدها لأجلها حدَّين لكل أب حد, فخطَّأه أبو حنيفة بناء على مذهبه أن حد القذف لا يتداخل؛ لأنه حق لله عنده كحد الخمر والزنى، أما الشافعي ومالك فإنهما يريانه حقًّا للآدمي, فيتعدد بتعدد المقذوف.
الثالث: أنه حَدَّ بغير مطالبة المقذوف, ولا يجوز إقامة حد القذف إلّا بعد المطالبة بإقامته, بإجماعٍ ممن يقول أنه حق آدمي أو حق لله، وبهذا يتمسك من يقول: إنه حق آدمي؛ إذ لو كان حق الله ما توقف على المطالبة.
الرابع: أنه والى بين الحدين, ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما, بل يترك بعد الحد الأول حتى يندمل الضرب, ويستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر.
الخامس: أنه حدها قائمة, ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة، وقال بعض الناس في زنبيل.
السادس: أنه أقام الحد في المسجد، ولا يقام فيه الحد إجماعًا، وفي إقامة القصاص والتعزيز فيه خلاف من الأحكام سورة ص.
غير أن ابن خلكان نقل القصة ببعض مغايرة في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ إذ لم يقل إن المرأة كانت مجنونة, وجعل مكان الاعتراض بالجنون الاعتراض عليه برجوعه من مجلسه بعد ما قام منه، ولا ينبغي للقاضي الرجوع بعد أن قام في الحال، وزاد أن ابن أبي ليلى شكا للوالي بأن بالكوفة شابًا يعارضني في الأحكام, ويشنّع على بالخطأ, فبعث إليه الوالي ومنعه من الفتوى فلازم بيته.
وروى أن ابنته استفتته يومًا بأنها خرج من أسنانها دم وهي صائمة فبصقته