ثم إن المنصور العباسي عرَّب كتبًا كثيرة من كتب اليونان والروم وغيرهم، وسرت أفكارهم إلى أفكار علماء الإسلام, واطلع أهل الإسلام على كثير من أحوال الأمم الأخرى وقضاياهم وأحكامهم، فانسلخ الفقه عن حلة البداوة التي كان متحليًا بها إلى غيرها، إلّا ما كان من فقه مالك الذي قطن في أفريقية ولم تكن مهدًا لتلك العلوم, فإنه قد بقي متمسِّكًا ببدويته، بخلاف مذهب الحنفية, فإنه صار فقهًا معقولًا أكثر منه منقولًا، لكن لما انتقلت العاصمة إلى بغداد نقل بنوا العباس علماء جلة من الحجاز إلى العراق لنشر السنة، منهم ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد، وهشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي، وغيرهم، فعند ذلك بدأ امتزاج مذهب العراق بمذهب الحجاز وتقاربا، ثم زاد التقارب برحلة أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف١، ومحمد بن الحسن إلى مالك والأخذ عنه، كما أن أفكار العراقيين انتقلت إلى الحجاز مع هؤلاء, وقبلهم أيضًا برجوع ربيعة بن أبي عبد الرحمن من العراق للمدينة, فزالت النفرة شيئًا ما.