إن ابن مسعود استوطن الكوفة، ونشر فيها علمه، وأفتى بما شهده من أقضية رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أو سمعه من حديثه، فأصبح أهل العراق تابعين لرأيه وروايته, معتمد عليها، في حال أن هناك أقضية وأحاديث لم يشهدها، لكن أهل العراق يزعمون أن السنة هي ما عندهم.
فإن الكوفة والبصرة تمصَّرتا لأول خلافة عمر، وأول ما عظم جيش الإسلام بهما، وبهما كثر جمعهم، قال في إعلام الموقعين "آخر المجلد الثاني": انتفل أليهما نحو ثلاثمائة من الصحابة ونيف، وإلى مصر والشام قال: وأكثر علماء الصحابة صار إليهما وإلى الشام, فمنهما فتحت سائر الأمصار من خراسان وما وراءها.
وأول ما انتفلت الخلافة إلى العراق زمن علي بن أبي طالب، وكان فيها قبله ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، وحذيفة، وعمران بن حصين، وكثير من الصحابة الذين كانوا من حزب علي ومعه كابن عباس، ولهذا لم يزاحم أهل الحجاز علي زعامة الفقه إلّا علماء العراق دون الشام ولا مصر ولا أفريقية أو غيرها.
إذ لم يقع لغير العراق من تلك الأمصار, فخالفوا أهل المدينة في كثير من الفقه زعمًا منهم أن السنة انتقلت إليهم، لكن الذي صار إلى العراق قل من جل، فالصحابة الذين بقوا في المدينة جمهورهم وأعلمهم كعمر بن الخطاب، وأبي بكر، وعلي في أول أمره، وعثمان، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وحفصة، وبقية الأزواج، وابن عمر، وأُبَيّ، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهم، كما كان بحمص سبعون بدريًّا، وبمصر الزبير بن العوام، وأبو ذر، وعمرو بن العاص، وابنه، وفي الشام معاذ, وأبو الدرداء ومعاوية وكثير غيرهم، وفي أفريقية عقبة بن عامر