فصنَّف مالك الموطأ، وتوخَّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوَّبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وتبويبه، فكان كتابًا حديثيًّا فقهيًّا, جمع بين الأصل والفرع.
فهو أول تدوين يعتبر في الحديث والفقه؛ إذ أقبل الخلق عليه وانتفعوا منه لتحريه في النقل, وانتقاء أحاديثه ورجاله، وفصاحة عبارته, وحسن أسلوبه الذي استحسنه كل من بعده إلى الآن، وهو أول من تكلم في أصول الفقه, وفي الغريب من الحديث, وفسَّر كثيرًا منه في موطأه هذا١.
ووصل كتابه تواترًا إلى الآفاق في حياة مؤلفه، قال في كشف الظنون: قيل: إنه هو أول كتاب أُلِّفَ في الإسلام، وقد أقام في تأليفه وتهذيبه نحو أربعين سنة، ولذلك تلقاه علماء الأمصار بالقبول, وهوأول من وضع اسمًا لكتابه فسماه الموطأ؛ لأنه وطأه ومهده, أو واطأه عليه علماء وقته، فقد قال: إنه وافقه عليه سبعون عالمًا من علماء المدينة، وكان أكبر مما هو عليه الآن بكثير، قيل: كانت أحاديثه عشرة آلاف فصار يهذّبه وينقص منه كل ما فيه طعن من الأحاديث والرجال, وما لم يقع به عمل الأئمة, إلى أن صارت أحاديث المسندة المتصلة نيفًا وخمسمائة.
قال مالك: لقيني أبو جعفر المنصور -يعني في الحج- فقال لي: إنه لم يبق عالم غيري وغيرك، أما أنا فقد اشتغلت في السياسة, فأما أنت فضع للناس كتابًا في السنة والفقه تجنب فيه رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمرو وشواذ ابن مسعود ووطئه توطئًا، قال مالك: فعلمني كيفية التأليف، يعني: دله على طريق الاعتدال التي هي أقوم طريق في التأليف والفتوى، وقد أقبلت الأمة وعلماؤها عليه في حياة مالك وأعجبوا به, ورحلوا إليه لأخذه عنه من جميع أقطار الإسلام، وانظر أول شرح الزرقاني على الموطأ تعلم أسماء من رحلوا إليه وأخذوا عنه من أعيان علماء الأفاق، ومن أسباب إقبالهم عليه أن أبا جعفر أو الرشيد قال له
١ قال المؤلف -رحمه الله: فلذلك اعتبره بعض الناس واضع التفسير، وتقدَّم في ترجمة ابن عباس رده.