يومًا: أردت أن أعلق كتابك هذا في الكعبة وأفرقه في الآفاق وأحمل الناس على العمل به حسمًا لمادة الخلاف, فقال له مالك ما معناه: لا تفعل, فإن الصحابة تفرقوا في الآفاق, ورووا أحاديث غير أحاديث أهل الحجاز التي اعتمدتها, وأخذ الناس بذلك, فاتركهم على ما هم عليه. فقال له: جزاك الله خيرًا يا أبا عبد الله.
فانظر اتساع مالك، ترك للناس حريتهم, ولم يجعل للسياسة دخلًا في كتابه، فأقبلوا عليه باختيارهم.
قال ابن العربي: الكتاب الأول واللباب: الموطأ، والثاني: صحيح البخاري، ولقد كان مالك أوثقهم إسنادًا وأعلمهم بقضايا عمر، وأقاويل ابنه، وزيد بن ثابت، وعائشة, وأصحابه من الفقهاء السبعة, وبه وبأمثاله قام علم الرواية، قال ابن رشد في المقدمات، وابن العربي وغيرهما: الموطأ مقدّمة في الفقه على المدونة١.
ومناقب الموطأ كثيرة, ودليلها في نفسها, فليقرأها من أراد اليقين, وكفى أنها المادة العظمى للكتب الستة وغيرها من كتب الحديث المعتمدة، حتى قيل: إن الكتب الستة مستخرجات عليها، ولذلك يعتبر مالك حائزًا قصب السبق في تأليف الفقه وأصله الحديث, ومخرجهما إلى عالم التدوين، وقد خطَّ خطًّا في التأليف لعلماء الإسلام استحسنوه فتبعوه واهتدوا بنور مصباحه، وموطأه تواترات في حياته واتصلت إلينا أسانيدها, والتفت وجوه العالم الإسلامي نحو أسانيدها, ودام النفع بها نحو اثني عشر قرنًا إلى زماننا هذا, لم تخلق على طول المدى، وكل المذهب تحتاج إليها وتعتمدها, ولم يكتسب تقادم العصر صنيعها, إلا طلاوة وقبولًا, وبظهور أفكار الإمام فيها زاد الأئمة تبصرًا واهتداءً، وكانت سببًا في انتشار مذهبه في الدنيا, وقد اعتدل الحنفية لما رحلوا إليها وأخذوها.
١ قال المؤلف -رحمه الله: هذا رأي هذين الإمامين, ولكن هما أنفسهما مع بقية المالكية خالفوها في مسائل, واعتمدوا رواية أبي القاسم في المدونة في مسائل معدودة عند المالكية, أفردت بالتأليف تقليدًا منهم لعمل أهل الأندلس.