للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والفروض, حتى إنهم فرضوا ما يستحيل وقوعه عادة، فقالوا: لو وطيء الخنثى نفسه فولد, هل يرث ولده بالأبوة أو الأمومة أو هما، ولو تزايد له ولد من بطنه وآخر من ظهره لم يتوراثا؛ لأنهما لم يجتمعا في بطن ولا ظهر، وفرضوا مسألة الستة حملاء، واجتماع عيد وكسوف، مع أنه مستحيل عادة، واعتذر بعضهم عن ذلك بأنهم فرضوا ما يقتضيه الفقه بتقدير الوقوع، وردَّه المازري١ بأنه ليس من شأن الفقيه تقدير خوارق العادة، قال السنوسي٢ بعده: ولو اشتغل الإنسان بما يخصه من واجب ونحوه, ويتعلَّم أمراض قلبه وأدويتها, وإتقان عقائده, والتفقه على معنى القرآن والحديث, لكان أزكى لعلمه وأضوا لقبله, لكن النفوس الرديّة وإخوتها من شياطين الإنس والجن لم تترك العقل أن ينفذ لوجه مصلحة, ولا حول ولا قوة إلا بالله.

واعلم أن أهل المائة الثالثة قد أكثروا من فرض مسائل لا يتصور العقل السيلم وقوعها، فأكثروا من التفريع, وهم أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك، وغالبهم أهل المائة الثالثة، فبسبب ذلك ضخم علم الفقه, واستغرقت الفروع النادرة الوقت عن النظر في الأصول، فتلخّص أن أبا حنيفة أول من فرض المسائل الغير الواقعة وبيَّن أحكامها, عساها إن نزلت ظهر حكمها، فزاد علم الفقه اتساعًا ومجاله انبساطًا، غير أن المتأخرين من أصحابه ومن غيرهم, أكثروا باتساع دائرة الخيال، لا سيما في مسائل الرقيق، وفي الطلاق، والأيمان، والنذور، والردة، وكلها مسائل تفنى الأعصار ولا تقع واحدة منها، وإنما تضيع أعمار العلماء، حتى أدَّى الأمر إلى الخيال، وأوجب تأخر الفقه ودخلوه في طور الكهولة, ثم الشيخوخة، ولا غرابة في كون الزيادة في الشيء تؤدي إلى نقصانه، لكن لا في هذا العصر بل بعد المائة الثالثة والرابعة, وما قرب منهما كما يأتي، أما في هذا العصر فكان لم يزل في شبابه.


١ محمد بن علي بن عمر، ت سنة ٥٣٦.
٢ لعله محمد بن يوسف بن عمر. الأعلام "٨/ ٢٩".

<<  <  ج: ص:  >  >>