للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حديث الحجاز في غالب, بل أخذوا أحاديث وجدت في خراسان وفي العراق والشام ومصر وغيرها من أقطار الإسلام رويت عن من كان هناك من الصحابة وأتباعهم.

فتلطَّف الشافعي في انتحال طريقة تجمع الفكر العام أو فكر الجمهور على الأقل, فأسس أصلًًا وهو الأخذ بالسنة مهما توفّرت شروط الأخذ بها, ومنها: أن لا يثبت أنها منسوخة، وترك شرط الحنفية للشهرة فيما تعمّ به البلوى, وشرط المالكية وهو عدم مخالفة العمل، وأخذ حتى بأحاديث غير الحجازيين, ولم يشترط إلّا الصحة أو الحسن، وترك المرسل والمنقطع والمعضل ما لم يثبت اتصاله كمراسيل ابن المسيب، ولم يحتجّ بأقوال الصحابة؛ لأنها يحتمل أن تكون عن اجتهاد يقبل الخطأ، ولم يعتبر ترك الصحابي أو مَنْ دونه أو أهل بلد أو قطر للحديث قادحًا فيه؛ إذ قد يكون لغفلة عنه, وعدم حفظه لما رآه من اجتهاد الصحابة في مسائل كثيرة, ثم يظهر الحديث يوفقها، فيفرحون أو بضدها فيرجعون، كما تقدَّم لنا أمثلة من ذلك في القسم الثاني.

وهكذا أخذ الشافعي بحديث القلتين، وخيار المجلس، وغيرهما، وتركهما المالكية والحنفية قبله، اللهم إذا صرَّحوا وبيَّنوا العلة القادحة في الحديث, أما مطلق عدم العمل به فليس بقادح، والتمسُّك بأمر محقق خير من أن نقول: عسى, ولعل هناك قادحًا، فالتف حوله أهل الحديث الذين كان لهم الكلمة العليا وهو أنصار السنة, حتى إنهم سموه في بغداد: ناصر السنة، قال الزعفراني١: كان أصحاب الحديث رقودًا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا.

وأخذ بالقياس فيما لم يكن فيه نصّ, فربح غنيمة المعركتين معًا، واستمال كثيرًا من أهل الفئات الثلاث, ووقع له ظهور عظيم بنشره لكتبه ومذهبه في العراق ومكة بنفسه, ثم بمصر أيضًا.

بهذا انتشر مذهب الشافعي سريعًا بين علماء الأمة بغير تعضيد أهل السياسة له، ومن غير أن يحصل على جلالة مثل جلالة مالك في العلم والاشتهار والفضل والمكانة في قلوب الأمة؛ إذ كان في ذلك وسطًا من الأمر, ولم تكن الأمة جامدة تنظر إلى الأشخاص فقط فتقدمها, بل تنظر إلى قيمة الأقوال فتزنها وتمحصها، وكان مع ذلك محظوظًا خدمه, وأشاع مذهبه, وتلمذ له من هو أجلّ منه.


١ هو الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، تهذيب التهذيب "٢/ ٣١٨".

<<  <  ج: ص:  >  >>