منها إدخال الفلسفة، والعقل في الأحكام الفقهية من حيث كونها بنيت على جلب مصالح واتقاء مضار، فنشأ عن ذلك الاختلاف في مبادئ وأصول: كمسألة القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأنواع الاستدلال، وخبر الواحد وما يشترط فيه من الشهرة أو عدم مخالفة عمل المدينة.
كذلك النزاع في الإجماع هل يتحقق بعد عصر الصحابة أم لا، وإذا تحقَّق فهل هو حجة أم لا، وفي الاحتجاج بالمرسَل، وبمذهب الصحابي، إلى غير ذلك، لكن كل ذلك لم ينقص من قوة الفقه، بل زادت قوته قوة, وقدمه رسوخًا, بدخوله في طور التدوين, وخروجه من طور التكوين, لما وجد في أهله من ألَّف وصنَّف بعدما كان عرضة للتلف, وبرز في السطور بعد الاحتجاب في خدور الصدور، وكان هذا العصر زاهيًا زاهرًا بسادات كبار أساطين الاجتهاد، تقدَّمت تراجمهم مختصرة، وكانت لهم أخلاق عالية وكمالات نفسانية, فلم يكن خلاف بعضهم لبعض مؤديًا لتحقير أو تعصيب أو تقاطع وتدابر, بل كانوا يثنون على المخالف لهم بالثناء الجميل. وتقدَّم ذلك في تراجمهم، وغاية ما كان ينشأ عن الخلاف أن يعتقد أن خصمة مخطيء في تلك المسألة بعينها, لما قام عنده من الدليل على خطئه في ظنِّه لا في كل المسائل، ويعتقد أنه معذور لما أداه إليه دليله, لا نقص يلحقه في ذلك, ويعرفون لكل عالم حقه ويقرون له بالفضل ويحترمون فكره.
وكان جميع العلماء مجتهدين لم يكن بينهم مقلد، ولا يقلد إلّا العوام، فلم يكن الخلالف ضارًّا لهم ولا مشينًا, بل كان سعيًا وراء إظهار الحقيقة، فلذلك عددنا الفقه فيه شابًّا قويًّا، نعم في هذ العصر، أعني: عصر أتباع التابعين، كثر الموالي وفسدت اللغة, واحتاجوا لعلومها كما سبق, واعتبر بتراجم العلماء السابقين تجد الجل منهم مولى أو موالي الموالي؛ كنافع مولى ابن عمر، وعكرمة، وكريب مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح الحبشي، والحسن البصري النوبي، وابن سيرين، ومكحول، وطاوس، والنخعي، وميمون بن مهران، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم.
وذلك هو الطامَّة الكبرى على الشعب العربي العظيم الذي امتدت فتوحاته من الهند إلى وسط أوربا، حيث اشتغل العرب بالسياسة وبهرجتها فغلبهم