سنة تقريبا، ولم يصل إلى أول المائة الرابعة إلا الأخير كما رأيت، فكانت المائة الثالثة مزادنة بالأئمة الكبار على قلتهم بالنسبة للمائة قبلها بخلاف الرابعة التي فشا فيها التقليد، وصار العلماء للجدال في أي المذاهب أفضل، وأيها يرجح وأن المجتهدين مع كونهم في المائة الثانية أكثر وأوفر كانوا أجل وأعظم، فمثل جلالة مالك العلمية والرحلة إليه من أطراف الدنيا، واتجاه الرأي العام الإسلامي من جميع المعمور إليه لم يوجد في هذه الثالثة، كل ذلك تصديق لقوله:"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ١.
ففي القرن الثالث كان آخر المجتهدين اجتهادا مستقلا مطلقا ولم يصل للرابع إلا قليل. وكانوا في هذه القرون الثلاثة على ترتيب القرون الثلاثة في الحديث لكثرة وجلالة كما سبق.
فهذه إشارة هذا الحديث ومعجزته الظاهرة، وذلك أن الاجتهاد في نظري هو كنور الشمس النافع الذي به حياة الأرض وما فيها، والتقليد هو كنور القمر الذي يحكي نور الشمس فقط، ونفعه قليل الجدوى، إذ القمر كوكب ميت كما يقولون، ومظلم لا نور له، نعم هو صقيل كالمرآة إذا قابل نور الشمس، انعكست منه الأشعة على الأفق كالمرآة ترتسم فيها أنوار الشمس، وتنعكس منها أشعة قليلة الجدوى، فالمقلد وإن بلغ من العلم ما بلغ، إنما هو كنوز القمر، لكونه مقيدا مغلولا عن الوصول إلى الدليل من الكتاب والسنة ومسالك التعليل، ولذلك اعتبره الأئمة عاميا ولا يقال: عالم إلا لمجتهد.
وحدث في هذه المدة قول الظاهرية بنبذ القياس أو غير الجلي منه، كما تقدم وهو قول وإن كان موجودا من قبل لكنه لم يقل به إلا نزريسير، وكان النزاع في تقديم بعض الأدلة على بعض كتقديم الحنابلة الحديث على الإجماع مخالفين في ذلك للمالكية وغيرهم، وتقديم مذهب الصحابي على القياس مخالفين للحنفية
١ أخرجه البخاري "٥/ ١٩١" ومسلم "٢٥٣٥" من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ "خير الناس قرني" وبلفظ: "خير أمتي" ولهما من حديث عمران بن حصين بلفظ "إن خيركم قرني ... ".