ولم تزل رواتب المدرسين به تافهة على ما وقع في السكة النقدية من الانحطاط حتى صارت لا تسد خلة المدرسين، ولا تسل عن المتعلمين، فصار جل المدرسين يتعاطى حرفة يسد بها رمقه، فتعطلت دروس، وأهملت فنون كانت فيه زاهرة يانعة من قبل. وهكذا بقيت الحال أسيفة إلى أن هيأ الله توظيفي نائب الصدارة العظمى في المعارف والتعليم، وكنت أول من وظف بها إذ لم يكن لوزارة المعارف وجود في المغرب من قبل سنة ١٣٣٠ ثلاثين وثلاثمائة وألف، فكان أمر القرويين أول ما أهمني قلبا وقالبا؛ لأنهما أمي وظئري، ومن ثديها العذب ارتضعت، وبها أمطيت عني التمائم، وبعد مجهودات صدر أمر شريف سنة ١٣٣٢ اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف بإدخال نظام إليها تنهض به لائق بمنزلتها من قلب الأمة المغربية، بل الإفريقية، وأسند نظرها إلي فقدمت فاسا صحبة أحد أعضاء الكتابة العامة للدولة الحامية، وهو المستعرب الشهير الذائع الصيت لدى العلماء والعوام مسيو مرسي المكلف بتعضيدي في درس المسألة وإيجاد أسباب حلها إداريا.
ولما حللنا فاسا، جمعت علماءها الأعلام كلهم، وشرحت لهم الحال، ورغبتهم في تشكيل لجنة لتحسين حال القرويين من بينهم بالانتخاب على نسق انتخاب المجلس البلدي بفاس؛ إذ كان مرادنا الوقوف على أنظارهم وحاجاتهم، وأن نبدي لهم ما ظهر لي من إدخال نظام مفيد، وإصلاحات مادية مع إصلاحات أدبية في أسلوب التعليم أيضا، وإحياء علوم اندثرت منها كليا، وتتبادل الآراء على عين المكان، ونجعل قانونا أساسيا للقرويين يكفل حياتها ورقيها، ولا نبرم أمرا إلا بعد حصول موافقتهم، بل استحسانهم، فقبلوا ذلك بغاية الارتياح، وشكلوا لجنة من أماثلهم بأغلبية الأصوات تحت اسم مجلس العلماء التحسيني للقرويين تركبت من رئيس وستة أعضاء وثلاثة خلفاء يوم ٢١ جمادى الثانية عام ١٣٣٢ وبعد ما وقع احتفال تسميتهم الرسمية بمحضر خليفة السلطان بقصر البطحاء، وأعيان المدينة شرعنا في العمل معهم، فكنا نجتمع يوميا فأطرح عليهم مسألة مما كنت أريد إدراجه من التنظيم والتحسين في القانون الأساسي للقرويين،