ملوك بني عباد بها، فلما انقضت دولتهم رحل للمشرق بعدا من ولاة لمتونة المستولين بعدهم الذين حجزوا أملاكه، ويقال: إنه ذهب في سفارة من يوسف بن تاشفين اللمتوني بالبيعة لخليفة بغداد سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فرحل معه ولده أبو بكر هذا وهو ابن سبع عشرة سنة بعدما تأدب، وقرأ القراءات، فلقي بمصر والشام وبغداد والحجاز أعلاما كبارا كالغزالي والطرطوشي، والصيرفي والأكفاني والشاشي وغيرهم، فاتسع في رواية الحديث والفقه والخلافيات والأصول والأدب والشعر، وكان معدودا من الشعراء المجيدين ومن شعره قوله:
من لي بمن يثق الفؤاد بوده ... وإذا ترحل لم يزغ عن عهده
يا بؤس نفسي من أخ لي باذل ... حسن الوفاء بقربه لا بعده
يولي الصفاء بنطقه لا خلقه ... ويدس صابا في حلاوة شهده
فلسانه يبدي جواهر عقده ... وجنانه تغلي مراجل حقده
لا هم إني لا أطيق مراسه ... بك أستعيذ من الحسود وكيده
ورجع من رحلته، فمات أبوه بالإسكندرية سنة ٤٩٣ ثلاث وتسعين وأربعمائة. قال ابن بشكوال: وفيها عاد أبو بكر إلى الأندلس، فقدم بلده إشبيلية بعلم كثير لم يأت به أحد ممن كان له رحلة إلى المشرق؛ إذ كان متفننا في العلوم مستبحرا فيها، ثاقب الذهن، واسع الجمع، مقدما في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذا في جميعها، حريصا على نشرها مع أدب أخلاق، وكرم نفس، وثبات ود، فجلس للوعظ والتفسير، وتولى الشورى، ثم القضاء ببلده، فكان سيفا للحق صارما.
وصنف تصانيف شهيرة، فشرح الموطأ شرحين، وله "عارضة الأحوذي شرح الترمذي" طبع في الهند وأحكام القرآن الكبرى، طبع بمصر وله الصغرى أيضا والقواصم والعواصم، والمحصول في أصول الفقه وتفسيره، بالغ ثمانين جزءا قال هو: إنه ألفه في عشرين سنة ثمانين ألف ورقة، وله كتاب السياسيات، وكتاب المسلسلات، وكتاب النيرين على الصحيحين، وكتاب مشكل القرآن