للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللِّسَانِ عَنْ شَهَادَةِ (الزُّورِ) لِمَا صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» .

(وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ (الْفَحْشَاءِ) أَيْ الْفَاحِشَةِ وَهِيَ كُلُّ مُحَرَّمٍ.

(وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ (الْغِيبَةِ) وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ لِلْإِنْسَانِ فِي غَيْبَتِهِ مَا يَكْرَهُ أَنْ لَوْ سَمِعَهُ وَلَوْ كَانَ حَقًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

ــ

[حاشية العدوي]

وَهُوَ مَا كَانَ لِإِنْقَاذِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ، أَوْ مَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ ظَالِمٍ حَتَّى لَوْ حَلَفَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ تت وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ النَّاصِرِ وَحَرَامٌ وَهُوَ قِسْمَانِ قِسْمٌ تُكَفِّرُهُ التَّوْبَةُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ. الثَّانِي: أَنْ يَقْتَطِعَ بِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَتَجِبُ مِنْهُ التَّوْبَةُ وَيُطْلَبُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ الْمُسَامَحَةُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ حَقِّهِ، وَمَنْدُوبٌ كَإِخْبَارِ الْكُفَّارِ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَظْفَرُونَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَمُبَاحٌ كَالْكَذِبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَرْغِيبًا فِي الصُّلْحِ وَزَوَالِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: مَنْدُوبٌ وَصَدَّرَ بِهِ تت وَمَكْرُوهٌ كَالْكَذِبِ لِلزَّوْجَةِ.

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مُبَاحٌ لِتَطْيِيبِ خَاطِرِهَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

قَالَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: وَمِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُثْنِيَ الْإِنْسَانُ عَلَى آخَرَ فِي كِتَابٍ وَفِي غَيْرِهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَمِنْهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: انْزِلْ عِنْدَنَا وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حَيَاءً مِنْهُ إذْ لَعَلَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَسْلَمُ عِرْضُهُ.

[قَوْلُهُ: الزُّورِ] وَهِيَ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ وَإِنْ وَافَقَ الْوَاقِعَ وَذَكَرَهُ بَعْدَ الْكَذِبِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الزُّورَ يَخْتَصُّ بِالشَّهَادَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ زُورِ الصَّدْرِ وَهُوَ اعْوِجَاجُهُ لَا مِنْ تَزْوِيرِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ تَحْسِينُهُ. [قَوْلُهُ: «أُنَبِّئُكُمْ» ] بِالتَّشْدِيدِ وَرُوِيَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ أُخْبِرُكُمْ [قَوْلُهُ: ثَلَاثًا] أَيْ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا تَأْكِيدًا لِتَنْبِيهِ السَّامِعِ عَلَى إحْضَارِ فَهْمِهِ. [قَوْلُهُ: «قَالُوا بَلَى» ] أَيْ أَخْبِرْنَا [قَوْلُهُ: «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» ] أَيْ هِيَ الْإِشْرَاكُ إلَخْ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْقِسَامِ الْكَبَائِرِ فِي عِظَمِهَا إلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثُبُوتُ الصَّغَائِرِ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا أَكْبَرُ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ بِأَنْ يَفْعَلَ الْوَلَدُ مَا يَتَأَذَّيَانِ بِهِ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ اسْتِوَاءُ رُتْبَتِهَا فِي نَفْسِهَا كَمَا إذَا قُلْت: زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَفْضَلُ مِنْ بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فِي الْفَضِيلَةِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِيهَا فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ أَكْبَرُ الذُّنُوبِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ أَيْ تَأْكِيدًا لِلْحُرْمَةِ. [قَوْلُهُ: فَقَالَ «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» ] وَفَصَلَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ وَالِاسْتِفْتَاحِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الزُّورِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَإِضَافَةُ الْقَوْلِ إلَى الزُّورِ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى الصِّفَةِ. وَقَوْلُهُ: أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ فَإِنَّنَا لَوْ حَمَلْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَذْبَةُ الْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَرَاتِبُ الْكَذِبِ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهِ [قَوْلُهُ: «فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا» ] قَالَ أَنَسٌ: «فَمَا زَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُكَرِّرُهَا» [قَوْلُهُ: حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ] أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَكَرَاهِيَةً لِمَا يُزْعِجُهُ.

[قَوْلُهُ: وَهِيَ كُلُّ مُحَرَّمٍ] أَيْ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ كَمَا يُفِيدُهُ تت، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْفَاحِشَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا خُصُوصُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذْ هُوَ فَرْدٌ مِنْهَا وَهُوَ الْقَوْلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَوْنُ اللِّسَانِ.

[قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولَ فِي غَيْبَتِهِ مَا يَكْرَهُ] أَيْ يَقُولُ فِي غَيْرِهِ فِي غَيْبَتِهِ مَا يَكْرَهُ، أَيْ مِنْ شَأْنِهِ فَخَرَجَ مَا إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ بِطَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مَدْحٌ وَالْمَدْحُ لَيْسَ شَأْنُهُ ذَلِكَ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُنَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا بَحَثَهُ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ، وَعَلَيْهِ فَإِذَا مَدَحَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ وَلَيْسَ فِيهِ فَيَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَذِبٌ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ غِيبَةٌ قَالَهُ عج.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ أَوْ دِينِهِ، أَوْ خُلُقِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ وَالِدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، أَوْ خَادِمِهِ، أَوْ حِرْفَتِهِ، أَوْ لَوْنِهِ، أَوْ مَمْلُوكِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِ الشَّارِحِ أَنْ يَقُولَ: إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ ذَكَرْته بِلَفْظِك، أَوْ كِتَابِك، أَوْ أَشَرْت إلَيْهِ بِيَدِك، أَوْ رَأْسِك أَوْ قَلْبِك، وَالْمُرَادُ عَقْدُ الْقَلْبِ وَحُكْمُهُ عَلَى الْغَيْرِ بِالسُّوءِ وَأَمَّا الْخَاطِرُ الْقَلْبِيُّ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ وَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ عِنْدَنَا مُطْلَقًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ غِيبَةَ الْعَالِمِ وَحَامِلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>