{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: ١٣٤] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي وَأَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي» . (وَجِمَاعُ) أَيْ جُمْلَةُ (آدَابِ الْخَيْرِ وَأَزِمَّتُهُ تَتَفَرَّعُ) أَيْ تَتَخَرَّجُ (عَنْ أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ) مَرْفُوعَةٍ أَحَدُهَا (قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ) فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ــ
[حاشية العدوي]
تَنْبِيهٌ:
الْحَدِيثُ صَرِيحٌ كَمَا صُنِّفَ فِي نَدْبِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ لِلصَّفْحِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَظْلُومُ يَتَوَقَّعُ مَفْسَدَةً مِنْ الظَّالِمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَفْوِ. [قَوْلُهُ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ] الْغَيْظُ هُوَ تَوَقُّدُ حَرَارَةِ الْقَلْبِ مِنْ الْغَضَبِ، وَكَظْمُهُ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْهُ بِالصَّبْرِ وَلَا يُظْهِرَ لَهُ أَثَرًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» .
[قَوْلُهُ: وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] أَيْ إذَا جَنَى عَلَيْهِمْ أَحَدٌ لَمْ يُؤَاخِذُوهُ، رُوِيَ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا. [قَوْلُهُ: أَمَرَنِي رَبِّي. . . إلَخْ] أَمْرَ نَدْبٍ وَتَأَكُّدُهُ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَخْفَى هَذَا مَا ظَهَرَ. [قَوْلُهُ: جُمْلَةُ آدَابِ الْخَيْرِ] أَيْ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ أَيْ خِصَالِ الْخَيْرِ، وَسُمِّيَتْ بِالْآدَابِ جَمْعُ أَدَبٍ؛ لِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ التَّأْدِيبُ، وَالْمُرَادُ بِأَزِمَّتِهِ جَمْعُ زِمَامٍ الطَّرِيقُ الْمُوصِلَةُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يُقَادُ بِهِ الْبَعِيرُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ لِلْخَيْرِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ كُلًّا يَقُودُ إلَى مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا ذُكِرَ تَجِدُ الْأَزِمَّةَ عَيْنَ الْآدَابِ فَيَكُونُ الْعَطْفُ مُرَادِفًا.
قَالَ عج: وَيَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ آدَابَ الْخَيْرِ كُلَّهَا تَجْتَمِعُ فِيمَنْ عَمِلَ بِمَضْمُونِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ لَا تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى إلَّا بِنَوْعِ تَكَلُّفٍ. [قَوْلُهُ: أَحَادِيثَ] جَمْعُ حَدِيثٍ وَهُوَ مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا، أَوْ فِعْلًا، أَوْ تَقْرِيرًا، أَوْ صِفَةً.
وَقَوْلُهُ: مَرْفُوعَةٍ أَيْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابِيِّ، أَوْ التَّابِعِيِّ وَالْوَصْفُ كَاشِفٌ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ أَحَادِيثَ. [قَوْلُهُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ. . . إلَخْ] أَيْ إيمَانًا كَامِلًا مُنْجِيًا مِنْ عَذَابِهِ. وَقَوْلُهُ: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُوَ مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، إلَى آخِرِ مَا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وُصِفَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ. وَلَا يُقَالُ يَوْمٌ إلَّا مَا يَعْقُبُهُ لَيْلٌ أَيْ بِوُجُودِهِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ فَلْيَفْعَلْ مَا يَأْتِي: فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ حَمْلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ عِنْدَ فَقْدِ الصَّارِفِ، وَاكْتَفَى بِهِمَا عَنْ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَالْكُتُبِ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُهُ، فَإِنَّ إيمَانَ الْيَهُودِيَّةِ إيمَانٌ بِأَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِيمَانُ النَّصَارَى بِهِ بِأَنَّ الْحَشْرَ لَيْسَ إلَّا عَلَى الْأَرْوَاحِ لَيْسَ إيمَانًا بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَفِي ذِكْرِهِ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ لِإِيقَاظِ النَّفْسِ وَتَحَرُّكِ الْهِمَمِ لِلْمُبَادَرَةِ إلَى امْتِثَالِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَهُوَ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ بَلْ يُكْرِمُ جَارَهُ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ، أَيْ بِكَفِّ الْأَذَى وَتَحَمُّلِ مَا صَدَرَ مِنْهُ وَالْبِشْرِ فِي وَجْهِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْجَارُ مَنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْإِكْرَامِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا.
[قَوْلُهُ: وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] الْإِيمَانُ بِهِ تَصْدِيقُ مَا فِيهِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْأَهْوَالِ. وَقَوْلُهُ: فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ: بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَالْإِتْحَافِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِالْقِيَامِ بِكِفَايَتِهِ، فَلَوْ أَطْعَمَهُ بَعْضَ كِفَايَتِهِ وَتَرَكَهُ جَائِعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُكْرِمًا لِانْتِفَاءِ جُزْءِ الْإِكْرَامِ، وَإِذَا انْتَفَى جُزْؤُهُ انْتَفَى كُلُّهُ، وَمِنْ إكْرَامِهِ أَنْ يَضَعَ لَهُ مَا يَغْسِلُ بِهِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ وَمِنْ إكْرَامِهِ أَنْ يُرْكِبَهُ إذَا انْقَلَبَ إلَى مَنْزِلِهِ إنْ كَانَ بَعِيدًا، وَمِنْ إكْرَامِهِ أَنْ يَجْلِسَ تَحْتَهُ فِي كِتَابِ الْمُنْتَخَبِ مِنْ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مَعَ الضَّيْفِ فَلْيُلْقِمْهُ بِيَدِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كُتِبَ لَهُ بِهِ عَمَلُ سَنَةٍ صِيَامُ نَهَارِهَا وَقِيَامُ لَيْلِهَا» ". وَالضَّيْفُ مَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute